د. رجب بن علي العويسي:
تحمل رؤية عُمان 2040 بمرتكزاتها ومحاورها ومبادراتها وقِيَمها وبرامجها طموحات كبيرة للوطن والمواطن، وفرصا واسعة وإنجازات تؤسس لمستقبل زاهر ـ إن أحسن الاستثمار في نواتجها، وتم قراءة مدخلات عملها وعملياتها في إطار مهني واضح يحفظ حق المواطن ويضمن قدرته على كسب الثقة فيما يمكن أن تقدمه القطاعات الوطنية من أجله ـ وبالتالي يجب أن تحظى بمزيد من الاهتمام والمتابعة والتشخيص والتحليل والقراءة المعمقة لكل مستجداتها في الواقع الميداني ومدى اقتراب المؤسسات والقطاعات أو ابتعادها من عمل الرؤية، ومدى وجود الرؤية كركيزة عمل وإطار تنفيذي يوجه بوصلة الأداء الفعلي بما يعصمها من الاجتهاد ويبعدها عن النظرات الضيقة والتعقيدات والتكرار، وإذا كانت الرؤية قد وضعت المنظومة الاقتصادية ركيزة عملها، سواء من خلال إيجاد بدائل اقتصادية أكثر استدامة وابتكارية في الخروج من دائرة الاعتماد الكلي على النفط وعبر التنويع الاقتصادي والاستثمار في الاقتصادات الواعدة كالطاقة المتجددة والنظيفة وقطاعات النقل والموانئ البحرية واللوجستيات والمدن الصناعية الكبرى وغيرها، فإنها وضعت الإنسان أولوية في رسم ملامح التحول، ونقل متطلبات التحول القادم واقعا ملموسا في حياة المواطن، وهو الأمر الذي يجب أن تنظر إليه القطاعات ومؤسسات الجهاز الإداري للدولة بعين الاهتمام، وأن لا تحجم النظرة الاقتصادية البحتة فسحة الأمل للمواطن ونافذته التي تصنع للرؤية حياة متجددة، وبالتالي ما يعنيه ذلك من أهمية أن يكون المواطن حاضرا في مدخلات الرؤية وعملياتها ومخرجاتها، وفي فصول العمل اليومي وتفاصيله الدقيقة وقرارات المؤسسات واستراتيجيات الأداء والخطط والبرامج.
غير أن ما تظهره ممارسات الواقع في الفترة السابقة منذ إقرار الرؤية، والبعد الاقتصادي الذي شكل ركيزة عمل الرؤية هو الصورة الأخرى الذهنية التي انتقلت للمواطن حول الرؤية، والقناعات التي بدأت تثبت له حقيقة ما يجري من عمل على الأرض حول ما إذا كانت الرؤية ساعية بجدية نحو صناعة مواطن المستقبل، وتعالج التحديات التي يواجهها، وتقف على حجم الهواجس والأفكار والضغوطات والتراكمات النفسية والفكرية التي يعيشها كنتاج لما فرضه الواقع الاقتصادي العالمي اليوم من توجُّهات، وقدرتها على إعادة هندسة المورد البشري من جديد، في كونه داعما للرؤية، محققا لأولوياته، مع استمتاعه بالفرص الإيجابية التي تتجه إليه، وتعمل على احتوائه، وتضمن له مساحة أكبر من الأمان النفسي والفكري والمعيشي والرفاه الاجتماعية، وبالتالي ما يستدعيه هذا الأمر من مراجعة لأدوات العمل وتقنينها وضبطها بما يتناغم وابجديات عمل الرؤية التي وضعت الجودة والكفاءة والتقنين والحوكمة مرتكزا أساسيا لعملها، وطريقها لبلوغ الأهداف وتحقيق الغايات، بما يضمن تجسيد الرؤية واقعا عمليا في حياة المواطن، وإنتاج مواطنة المستقبل، بحيث تسهم هذه الموجهات وآليات العمل، واستراتيجيات التنفيذ المقننة، في بناء صورة ذهنية تفاؤلية حول مستقبل المواطن في منظور الرؤية، وتبرز روح التكامل والتناغم بين فلسفة الرؤية وبناء الإنسان العماني، والأولويات التي تنطلق منها الرؤية في ضمان قدرة المواطن على الاستفادة من محطات التحول التي تنشدها الرؤية.
لذلك نعتقد بأن الاستمرار في قراءة الرؤية من طرف واحد خفي، وتكريس لغة فرض سلطة المال على كل جوانب الحياة اليومية، وضعف الأخذ بمساحة الحوافز والخيارات والبدائل التي يطرحها المواطن عبر المنصات التواصلية في معالجة الواقع الاقتصادي، والحد من العجز في الموازنة العامة للدولة، والمديونيات المالية، قد يحد من مستوى التفاؤلية لديه، فإن من شأن وضوح صورة الرؤية في ذهن المواطن، وسلامة التفكير الذي يحمله حول الرؤية، وتقوية الشعور الإيجابي لديه في ثبات الرؤية وديناميكيتها وقابليتها للتكيف مع الظروف والمتغيرات الاقتصادية العالمية أحد أهم معطيات القوة للرؤية، وقدرتها على بلوغ أهدافها الطموحة، كما أن نجاح الرؤية يعتمد بالدرجة الأولى على استيعاب المواطن لها، ووضوح توقعاته بشأنه، وفهمه لمقتضياتها وغاياتها، وإدراكه لحجم التغيير القادم الذي تصنعه الرؤية في فقه المواطن العماني، وهنا يأتي التسويق الداخلي الذكي للرؤية ليس من خلال منصات الإعلام، بل وهو الأهم من خلال واقع عمل المؤسسات وإنجازاتها وبرامجها تعيد هندسة التفكير لدى المواطن، بحيث لا يفهم من الرؤية جملة من الواجبات والرسوم والضرائب والاستحقاقات المالية التي تفرض على المواطن، وان دوره يكمن في دعم هذه الرؤية ماديا وماليا أكثر من استيعابه لها معنويا، هذه الصورة السلبية القاتمة التي بات يقرأ فيها المواطن الرؤية، والتي يظهر فيها الدور السلبي للمواطن من طرف واحد، يجب أن يعمل إعلام الرؤية على تصحيحها والتعامل مع المفاهيم المغلوطة بمزيد من الاستشهاد والتدليل على خطوات الإنجاز النوعية واستحضارها في الواقع، واستهاض أوسع للخيارات والفرص الناتجة عن الرؤية على حياة كل مواطن عماني، وموقع المواطن منها، ودوره فيها، وحدود مسؤوليته نحوها، ودور الحكومة في مساعدة المواطن في استيعاب أنماط العمل في قطاعات الرؤية، وحجم الإنجاز المتحقق في كل قطاع، وموقع المواطن منه، والصورة النموذجية المتوقعة من واقع المؤشرات والاحصائيات والشواهد الموثّقة.
إن تحقيق صورة نموذجية تفاؤلية لدى المواطن حول معطيات الرؤية ومستجدات عملها يرتبط بعدة موجهات، منها: التكاملية في استراتيجيات العمل، والشمولية والاتساع في التعاطي مع متطلبات الرؤية وفلسفة عملها، ومزيد من التفهم والوعي بظروف المواطن بما من شأنه تجنيبها لغة الفوقية أو سلطوية الراي والقرار، وأن يكون حضور المواطن في أبجديات الرؤية وفصول عملها حضورا داعما للرؤية، وأبعد من أن يكون مجرد رقم يقدمه المواطن عبر حزمة الرسوم والضرائب، بالإضافة إلى تبني مسار الشفافية والوضوح، ولغة الحوار المتفاعل في تعاطي المسؤول الحكومي وإفصاحه عن واقع الممارسة الميدانية للوحدة الحكومية التي يشرف عليها أو يعمل في نطاقها، وإلى وضوح مؤشرات العمل بشكل يتجاوب مع متطلبات التحول الحاصلة في المؤسسات، ويجسد دورها في تنفيذ ابجديات الرؤية، وانعكاسات ذلك واقعيا على الحياة الاجتماعية للمواطن واستقراره المعيشي، فمثلا عدم الاكتفاء بقراءة نواتج مبادرات الرؤية وأثر الإجراءات والخطط المتخذة المعبرة عن متطلبات الرؤية، في معدلات العجز والتضخم والدين العام، والفائض الاقتصادي، وحجم الاستثمارات، وتأثير الإجراءات المتخذة في الاستقرار الاقتصادي واستقرار العملة، وارتفاع أسعار النفط وأهميتها في سداد العجز وتوفير السيولة المالية، بل إن أيضا وهو الأهم انعكاسات هذه الجوانب على حياة المواطن المعيشية، من حيث عمليات الاستهلاك اليومي، والادخار والسيولة المالية، والتحويلات الأجنبية، وارتفاع تشغيل العمالة الوافدة، وارتفاع الأسعار، وغيرها، بحيث يكون لهذه الأبعاد الاجتماعية ونواتجها حضورها في عمليات الرصد والتحليل والقراءة المعمقة لمتطلبات تنفيذ الرؤية، بما يؤكد ما أشرنا إليه في مقالات سابقة الحاجة إلى مختبر وطني لقياس مستوى التقدم الحاصل في تنفيذ الرؤية على مستوى القطاعات وعلى مؤسسات كل قطاع، والتغييرات الحاصلة في أساليب العمل وآليات التعامل، واستخدام التقنية في تسهيل الإجراءات الحكومية وتقليل الفاقد والهدر ومردود ذلك كله على حياة المواطن.
وبالتالي تبني سياسات وطنية تضمن المزيد من المكاشفة والوضوح في أثر الإجراءات المرتبطة بالرؤية على حياة الموطن، وإيجاد مساحة أكبر من التنافسية في تعظيم دور الرؤية في الواقع، وأن يسهم وجود مكاتب الرؤية في مؤسسات الجهاز الإداري للدولة في إيجاد جسور اتصال مستمرة تحتوي كل الأفكار والقناعات والاهتمامات والرغبات والأطروحات والأنماط والنماذج العملية والممكنات التي يبديها الموظفون في مؤسساتهم لمساعدة المؤسسات في تنفيذ أولويات الرؤية، وترقية المنصات التواصلية التفاعلية في الإفصاح عن جوانب البطء الحاصلة وعلاقة ذلك بالسلوك المؤسسي العام والعمليات الإدارية الحاصلة ومدى اقترابها المباشر عن توجُّهات الرؤية، بحيث لا يقتصر الأمر على قطاعات الخط الأول في تنفيذ مبادرات الرؤية، بل أيضا في الاهتمام بالقطاعات الأخرى الهامدة واكتشاف الجوانب النوعية فيها مثل: التعليم والبحث العلمي والابتكار والعمل الاجتماعي وأدوار المحافظين والشؤون البلدية واكتشاف الجوانب النوعية في هذه المجالات بما يسهم في انخراطها ضمن إطار عمل الرؤية، ومع كل ذلك فإن عليها أن تقرأ المواطن في كل جوانب عمل الرؤية بحيث تصنع من التفاصيل فرص قوة لتعظيم وجود المواطن في محاورها واستراتيجياتها وبرامجها، باعتباره طريق النجاح، ومبعث الأمل في إخراج هذه الرؤية إلى الواقع.
أخيرا، يبقى الرهان المجتمعي في تحقيق الرؤية لهذا الطموح، بوجود مسار إعلامي نوعي متوازن يتسم بالشفافية والوضوح، وقبول الرأي الآخر واحتضانه، والنقد البناء والتعددية في البدائل، والتنوع والتنويع، والعمق والاتساع، وتوليد الأفكار، وصناعة الفرص وإنتاج الحلول المقنعة، عبر تقوية منصات التحليل والتواصل والاتصال، والتوسع فيها، وتعظيم نواتجها، ومحاكاة الواقع الافتراضي للرؤية بالتركيز على النماذج والعيِّنات والمبادرات بما يسهم في تقريب الرؤية من الواقع وإدماجها في حياة المواطن، ويوظف طاقات الشباب ويحتويهم، ويتيح لهم فرصا أكبر للتثمير في مواردهم الذاتية والتسويق لإمكانياتهم ومهاراتهم وقدراتهم، إن من شأن ذلك أن يفتح آفاقا أوسع للتفكير خارج الصندوق وإبراز دور الشباب وفئات المجتمع الأخرى في سبر أعماق الرؤية، ووضع المواطن ـ العقل الاستراتيجي للرؤية ـ وطموحاته ومبادراته أمام استحقاقات شراكة وجوبية يقف فيها على عمليات التطوير، ويشارك خلالها في تقييم كفاءة الجهد المؤسسي الموجه نحو إنتاج مواطن المستقبل القادر على العيش في عالم مضطرب وظروف اقتصادية صعبة.