د. جمال عبد العزيز أحمد:
تناولنا في لقاءات ثلاثة سابقة بعضَ الآيات القرآنية التي ورد فيها الوقف الممنوع في سورة النحل، وبيَّنَّا دلالاتِها، ومعانيها، وجمال الوقف الممنوع فيها، وطبيعته، وما يرتبط به من قواعدَ نحوية، وما يتبعها من بلاغة وإعجاز، وما تهدف إليه من قيم تربوية، ونواصل اليوم الحديثَ حول هذا الوقف الممنوع بوصف تلك السورة قد تضمنتْ أكبر قدر منه، فقد ورد فيها عشرة وقوف كاملة، تناولنا منها ثلاث آيات فقط فيما مضى، ونتناول الوقف الرابع منها، وهوما ورد في الآية الثامنة والثلاثين، وهي قوله تعالى:(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَ‍قًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
جاء في تفسير كلٍّ من الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي، ومعالم التنزيل للبغوي في معناها ما يأتي، قال الواحدي):وأقسموا بالله جهد أيمانهم(: أغلظوا في الأيمان تكذيبًا منهم بقدرة الله على البعث، فقال الله تعالى:(بلى(ليبعثنَّهم (وعدًا عليه حقًّا)، وقال البغوي: قوله:(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ)، وَهُمْ مُنْكِرُو الْبَعْثِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ:(بَلى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).أ. هـ، وهكذا يتضح تفسير هذين العالمين في تلك الآية.
وقد جاء الوقف الممنوع هنا على كلمة:(أيمانهم)، وهذا الوقف الممنوع كان سببه المباشر أن ما بعد كلمة (أيمانهم) هو جواب القسم، حيث يتكون جواب القسم ـ كما عرفنا من قبلُ ـ من ثلاثة أقسام: حرف القسم، ويتنوع بين:(الواو، أو الباء، أو التاء)، أو فعل القسم، مثل الفعل: أقسم، أو الفعل أحلف، أو ما يقوم مقام ذلك الفعل، مثل ما ورد هنا من قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم)، أيْ: أقسموا جاهدين بكل ما يملكون، وبذلوا في ذلك أقصى ما عندهم، وما يستطيعون: (جهد أيمانهم)، أيْ: أقسموا بكل ما يمكن القسم به، والذي يُمليه عليه إيمانُهم، واتصالُهم بخالقهم، وبما يعتقدون مما يعرفون، وما يفهمون، وبكل ما يعتقدون، فقد بذلوا في ذلك ما يمكنهم بذله، وما وفي وسعهم تقديمه، وعمله، فقول اللهعز وجل:(وأقسموا بالله) هذا فعل القسم، أيْ، والله الذي لا إله إلا هو، وقولهم:(جهد أيمانهم) هي حال منصوبة، أيْ: أقسموا بالله مجتهدين، مخلصين في أيمانهم، وأقسامهم، ومبالغين فيها، وفيما تمليه عليه دواخلهم من القوة، والإخلاص في القسم، ونحوه مما يبيِّن صدقهم التامَّ، وجهدَهم المطلقَ في مسألة القسم، ثم تأني جملة جواب القسم، أو المقسم عليه، وهو قولهتعالى:(لا يبعث الله من يموت)، فهذه جملة جواب القسم التي انصبَّ عليهم فيها القسمُ المغلظُ منهم، الذي بذلوا فيه جهد أيمانهم، والقاعدة ـ كما أسلفنا من قبلُ ـ أنه لا يجوز الوقف على فعل القسم دون الإتيان بجملة القسم، حتى تُفهَم ماهيةُ القسم، وطبيعته، وإلا لكان في الكلام خلل، واضطرابٌ في قولهم، ومن ثَمَّ جاءت العلامة (لا) فوق أيمانهم، وما بعدها هو تتمة جملة فعل القسم، وذلك حتى لا يقف القارئ على أيمانهم، أو يُنهِي التلاوةَ عليها، ويمضي، فلا تفيد القسم منهم شيئا، ومعلوم أن أصل الوقوف، وغايتها هو شمول المعنى، وتمام الدلالة، وكمال الفهم، والوقف على فعل القسم دون جوابه لا يليق بالكلام البشري، فما بالك بكلام الله تعالى؟!، ومن هنا جاء الوقف الممنوع على(أيمانهم)، لئلا يكون في الكلام نقصٌ في معناه، أو خللٌ في مبناه، وخلاصةُ الوقف، وقاعدته في تلك الآية أنه لا يجوز الوقف على فعل القسم من غير أن يُتِمَّ القارئ معه جملةَ القسم، لأن فعل القسم، أو حرف القسم مع المقسم به، مع المقسَم عليه، كله يشكل جملة واحدة في معناها، وعبارة متماسكة الأركان في مبناها، ويلزم أهلَ التجويد أن يعلِّموا مَنْ هم تحت أيديهم تلك القاعدة، ويبيِّنوا لهم لِمَ كان الوقف هنا ممنوعًا؟، ولمَ وضعت علامة (لا)؟ بمعنى لا تقفْ، بل واصلِ التلاوة حتى يتمَّ المعنى الإجماليُّ الكليُّ للآية، وحتى يُفهَمَ فحواها، وتُعلَمَ غايتها، ودلالتها، وأن الأصل في الوقوف تمام المعاني، وكمال المباني، وأن تَرْكَ تلك القواعد، وعدم الإلمام بها قد يجعل قراءة القارئ لا معنى لها، ولا فهْم لها، وكتاب الله يُؤخَذ كلُّه بقواعد تلاوته، ومبادئ تجويده، مع شيء من قواعد النحو والصرف التي تبيِّن جمال التجويد، ومعاني الوقوف، وتبرز جلال الكتاب الكريم.
وتأتي الآية التي تلي ذلك في سورة النحل، وهي الآية السابعة والخمسون التي يقول الله تعالى فيها:(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ)، ففي تلك الآية الكريمة نجد الوقف على كلمة التنزيه (سبحانه)، التي تعرب نائبًا عن المفعول المطلق لأن أصلها أسبِّح الله تسبيحًا، فـ(تسبيحًا) هي المفعول المطلق، لكنَّ القرآن الكريم عدل عنها إلى اسم المصدر: (سبحانه)، فصارت نائبًا عن المفعول المطلق، والضمير الهاء مضاف إليه في محل جر، وهو يعود على الله تعالى، وكلمة (سبحان) في الأصل عَلَمٌ على تنزيه الله، وهي إن لم تكن مضافة فهي ممنوعة من الصرف، لزيادة الألف والنون، فالأصل فيها الفعل (سبح)، فسبحانَ على وزن (فُعْلان) بضم الفاء وبزيادة الألف والنون،وقال العلماء من الأسلاف عن كلمة (سبحان) ما بيَّنها، وأوضحها بجلاء، قال أبو عمرو بن الحاجب في أماليه:(الدليل على أن "سبحان" علم للتسبيح)، كما في قول الشاعر:
قد قلت لما جاءني فخرُهُ
سبحانَ مِنْ علقمةَ الفاخرِ
ولولا أنه عَلَمٌ لوجب صرفه؛ لأن الألف والنون في غير الصفات إنما تمنع من الصرف مع العلمية"، وقال الشهاب السمين الحلبيفي كتابه (الدر المصون في علوم الكتاب المكنون):قيل هو مصدر، لأنه سُمِعَ له فعلٌ ثلاثيٌّ، وهو:(أيْ: سبحانه) من الأسماء الملازمة للإضافة، وقد يُفْرَدُ، وإذا أُفْرِدَ مُنِعَ من الصرف للتعريف، وزيادة الألف والنون، كما في البيت السابق، وقد جاء منونًا كقوله:
سُبْحَانَهُ، ثُمَّ سُبْحَانًا يَعُودُ لَهُ
وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالجَمَدُ
فقيل: ضرورة، وقيل: هو بمنزلة (قبلُ، وبعدُ)، إِنْ نَوَى تَعْرِيفَهُ بقي على حاله، وإن نُكِّرَ أُعْرِبَ، منصرفًا، وهذا البيت يساعد على كونه مصدرًا، لا اسمَ مصدر، لوروده منصرفًا، ولقائل القول الأول أن يجيبَ عنه بأن هذا نكرة، لا معرفة، وهو من الأسماء اللازمةِ النصبِ على المصدرية، فلا تنصرفُ، والناصب له فعل مقدر، لا يجوز إظهاره (أي: يجب استتاره)، وقال أبو شامة: حيث جاء منصوبًا نصبَ المفعولِ المطلقِ اللازمِ إضمارُ فعله، وفعلُه إما فعل أمر، وإما خبر...
* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية
[email protected]