يتواصل عمل المصارف الإسلامية في مختلف الدول العربية والإسلامية وفي مختلف دول العالم بشكل متصاعد ممّا يدفع على السرور بانطلاق هذه التجربة الفريدة في العمل المصرفي، والثقة باستمرار انتشارها وازدياد الإقبال على التعامل معها، حتّى وصل عددها إلى ما يناهز 300 مصرف ومؤسّسة مالية. إلاّ أنّ التمحيص في بعض التفاصيل الخاصّة والعامّة تبرز ضرورة إعادة تصحيح بعض التوجّهات لضمان استمرار نموّ المصارف الإسلاميّة في المستقبل والثقة بها. ولكن لا بدّ من وجود رؤية مستقبليّة في ظلّ التحديات القائمة والمتوقعة على مستوى العالم.
يتألف جمهور زبائن المصارف إلى أصناف متعددة يتمايزون فيما بينهم بما يطلبونه من خدمات وتمويل، إلاّ أنّه وفي ظلّ تقديرات تزايد عدد السكان في العالم إلى ما يزيد عن 8 مليارات إنسان في العام 2030م، ومن ضمنها تضاعُف عدد السكان في الوطن العربي، فإنّ الطلب على الخدمات المصرفيّة سيتزايد بشكل غير مسبوق. ولا بدّ والحال كذلك من تحصين المصارف الإسلامية بسياسات تصون مكانتها وحصّتها في قطاع المصارف.
لقد أصبح مبدأ العولمة هو المسيطر على النشاط الإقتصادي في العالم، وهذا التوجّه يدفع باتجاه تخفيض هامش الإستقلاليّة وحريّة الحركة بسبب فرض القوانين التي تحتّم على جميع المنضوين تحت نظام العولمة الإنصياع إلى طريقة العمل الجديدة. وفيما يخصّ المصارف الإسلامية، فإنّ القوانين الدولية للمصارف، بموجب إتفاق بازل الأول والثاني ثمّ الثالث، تضع المصارف الإسلاميّة في زاوية حرجة لمواكبة التطوّر في معايير بازل وإلاّ واجهت عزلة دوليّة بسبب عدم إمكانيّة العمل في مختلف دول العالم في ظلّ اختلاف معايير المصارف الإسلامية عن المصارف الدولية الربويّة.
تأخذ الكثير من المصارف الإسلاميّة هذه المعايير آنفة الذكر على محمل الجديّة المطلقة، وتتعامل على أساس التطبيق الفعلي لها؛ بل إنّ البنوك المركزيّة في كثير من الدول العربيّة والإسلاميّة تفرض هذه المعايير على جميع البنوك على حدّ سواء. ولكن لا بدّ للمصارف الإسلاميّة من أخذ المبادرة بشكل جامع وقيادة التغيير نحو المستقبل والعالميّة، وذلك من خلال الالتزام بالمعايير الدولية حتى لو لم تتناسب مع عمل المصارف الإسلامية بشكل تام.
إنّ هذه الصورة الواسعة للسوق المصرفي العالمي تتطلب مقدرات ماليّة كبيرة لخدمتها والإستفادة منها، لكن المصارف والمؤسّسات الماليّة الإسلاميّة، والتي يصل عددها إلى 300 مؤسّسة ومصرفاً كما ذكرنا، لا تتجاوز قيمة رأس مالها أكثر من 15 مليار دولار أمريكي. وهذا الواقع لا يدلّ على إمكانيّة التوسّع في العمل المصرفي العالمي لا محليّاً ولا دوليّاً، بالمقارنة مثلاً مع ازدياد التجارة الدولية إلى 450 مليار دولار أميركي والتجارة العربية إلى 50 مليار دولار أميركي سنوياً، وضرورة تمويلها. هذا بالاضافة إلى أنّ تطوير قطاع إنتاج النفط وحده يتطلب استثماراً يزيد عن 50 مليار دولار أميركي، وقطاع الكهرباء مماثل لذلك. فما بالنا إذاً مع احتياجات تمويل القطاعات الصناعيّة والمواصلات والإتصالات والتعليم والصحّة وغيرها الكثير. إنّ المراقب لعمليّات التمويل التي تقوم بها المصارف الإسلاميّة لا يستطيع أن يتغاضى عن الظاهرة التي تتّصف بها هذه المصارف؛ وهي التمويل بواسطة المرابحات التي تُقدّرها المصادر بنسبة 68% من مجمل التمويل في المصارف الإسلاميّة، إضافة إلى تمويل العقارات بشكل مكثف وخاصّة في الآونة الأخيرة.
وبناء عليه، فلا بدّ من تطوير دور المصارف الإسلاميّة في مجالات تمويل المشاريع التنموية، والصناعية، والزراعية، والتقنيّة، وغيرها من مشاريع القطاعات الإنتاجيّة. كما ينبغي على تلك المصارف أن تستفيد من حالة الاقتصاد الحُرّ السائد في العالم، وتعمل على تمكين المجتمعات العربيّة التي ترفد هذه المصارف بالأموال حتى تحقق المكاسب الإقتصاديّة من ثروات مجتمعاتها.
إنّ الإحتراف في العمل المصرفي الاسلامي ضروري، يجب تدريب العاملين في المصارف الإسلاميّة للوصول إلى مرحلة شرعيّة راقية لأداء الأعمال من خلال توجيه شرعي يدفع إلى التناغم بين الموظف والشّرع، وبين الموظف والزبون الذي يجب أن يجد جواباً على كل أسئلته واحتياجاته التمويلية والاستثمارية. وانطلاقاً من هذا التوجه، يحقق العاملون في المصارف الإسلامية الكفاءة والحرفيّة مع استمرار التدريب والتعليم وتوافر سياسات العناية بالكوادر البشرية على المدى الطويل. وهذه الرؤية المستقبليّة مطلوبة لإعداد الكوادر البشريّة للمصارف الإسلاميّة على الصعيدين الشرعي والفني. فلا بدّ أيضاً من رقابة شرعيّة محترفة في العمل المصرفي تكون على دراية كاملة بالأحكام الشرعيّة؛ لأنّ الرقابة الشرعية على التطبيق العملي المصرفي ضرورية وأساسية للتأكد من تنفيذه بشكل صحيح ومنضبط بالمعايير الشرعيّة، وتوجيهات هيئة الرقابة الشرعية إضافةً إلى أهمية الورع في العمل المصرفي من جانب الموظفين في تطبيق أعمالهم.
لا ننكر إنّه يوجد انتقادات موجهة إلى المصارف الإسلاميّة، والتي غالباً ما تكون بحسن نيّة لتنقية العمل المصرفي الإٌسلامي والحفاظ على مكانته في العالم. لذلك، فالمطلوب هو إشراك الجميع في العمل والقرار حتى يأتي الجهد متكاملاً، ويتحمّل الجميع مسؤولياتهم تجاه الأجيال القادمة وأمام الأمّة جمعاء.

أنور مصباح سوبره
المراجع الشرعي الداخلي ـ بنك نزوى