د. أحمد مصطفى أحمد:
بدأ فصل الشتاء رسميا هذا الأسبوع (21 ديسمبر)، لكن الطقس البارد في نصف الكرة الأرضية الشمالي بدأ من قبل. ويتوقع أن تنخفض درجات الحرارة، كما هو الحال موسميا، بما يزيد الطلب على الطاقة في كثير من الدول الصناعية المتقدمة اقتصاديا. ومع زيادة الطلب والاستهلاك للطاقة بمختلف أشكالها تزيد المخاطر على البيئة في وقت يحذر فيه العلماء من التغير المناخي الذي يهدد حياة البشر فوق كوكب الأرض كله. ليس هناك الكثير الذي يمكن عمله من قبل الدول الصناعية الكبرى للحدِّ من الانبعاثات في وقت استهلاك عالٍ للطاقة مع دخول الشتاء. وكل الخطط والتعهدات بالتحول من استخدام مصادر الطاقة عالية الانبعاثات الكربونية إلى الطاقة النظيفة المستدامة تحتاج لاستثمارات بآلاف المليارات من الدولارات. وإذا كانت تلك الدول ذات الاقتصاد الأكبر حول العالم هي أكبر الملوثين للمناخ بالانبعاثات الهائلة الناجمة عن صناعاتهم وتوليدهم لكميات هائلة من الطاقة الكهربائية، فالمنطقي أن يكون العبء الأكبر في التحول للطاقة النظيفة على تلك الدول. تتقدم الولايات المتحدة والصين واليابان وأستراليا ودول رئيسية في أوروبا قائمة الملوثين في الأرض، ومع ذلك لا يبدو أن تعهداتهم بخفض الانبعاثات قابلة للتحقق في المدى الذي يعده العلماء مطلوبا لمكافحة تغير المناخ.
لنأخذ ـ على سبيل المثال ـ أكبر دولة مصدرة للفحم في العالم: أستراليا. تتبجح حاليا بأنها ستجني أكثر من ربع تريليون دولار من صادرات الفحم في السنوات القادمة. واستخدمت كل ضغط ممكن لتصدر قرارات قمة المناخ بأخف التعهدات فيما يخص وقف استخدام الفحم في توليد الطاقة. مع أن الفحم تصدر عنه انبعاثات كربونية أضعاف ما يصدر عن النفط والغاز. أما الصين فتحاول مضاعفة إنتاجها من الفحم. حتى دول أوروبا، مثل ألمانيا وبريطانيا، اضطرت منذ الصيف لإعادة تشغيل محطات توليد الكهرباء التي تعمل بالفحم بعدما كانت تستعد لتفكيكها في إطار الوفاء بتعهداتها لمكافحة المناخ. ولا يمكن بعدئذ تصور أن يتراجع النمو في الطلب العالمي على النفط والغاز في السنوات القادمة.
إذا كان من الصعب معرفة الوضع الحقيقي لجهود الصين للحدِّ من انبعاثات الكربون، فإن الولايات المتحدة يفترض أنها شفافة في هذا الإطار. تسعى إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن منذ توليها السلطة مطلع هذا العام لتمرير تشريع بحزمة إنفاق نحو تريليوني دولار على برامج الرعاية الاجتماعية ومكافحة تغير المناخ، تتضمن أكثر من نصف تريليون دولار لمشروعات التحول إلى الطاقة النظيفة. وتعد الخطة أساسية في جهود أميركا لتنفيذ تعهداتها المناخية في القمة العالمية التي استضافتها بريطانيا الشهر الماضي، "كوب 26".
هذا الأسبوع، منيت جهود إدارة بايدن لتمرير التشريع في الكونجرس بانتكاسة مع إعلان السيناتور جو مانشين أنه سيصوت ضده في مجلس الشيوخ. وبدون صوته، لن يمر في مجلس منقسم بالتساوي بين الحزب الديموقراطي الحاكم والحزب الجمهوري الذي يعارض تماما التشريع. مانشين عضو مجلس الشيوخ عن ولاية غرب فيرجينيا، أكبر ولاية منتجة للفحم في أميركا. ويملك هو نفسه شركة للطاقة، يديرها ابنه الآن. برر السيناتور مانشين رفضه لحزمة الإنفاق على برامج الرعاية الصحية والاجتماعية ومشروعات التحول للطاقة النظيفة لتقليل الانبعاثات الضارة بالمناخ بأنها ستزيد الدين العام وترفع معدلات التضخم. لكن الواقع أنه اصطف مع الجمهوريين ورجال الأعمال ومصالح شركات الطاقة الكبرى وفي مفدمتها شركات الفحم.
المثير، أن أكبر اتحاد للعاملين في مناجم الفحم في ولاية غرب فيرجينيا طالب السيناتور الديموقراطي بتعديل موقفه وعدم رفض حزمة الإنفاق. فإلى جانب ما تتضمنه من منافع مباشرة للعمال في مجال الرعاية الصحية والاجتماعية والتعليم لأطفالهم، فهي تتضمن حوافز مجزية للمتضررين من فقد وظائفهم نتيجة التحول في إنتاج الطاقة. كما أنها تتضمن تمويلا لمشروعات ومصانع تستوعب العمالة التي ستفقد عملها في مناجم الفحم وشركات الطاقة التقليدية.
بدون حزمة التريليوني دولار لن تستطيع إدارة بايدن الوفاء بتعهداتها في قمة المناخ بالحدِّ من الانبعاثات ومكافحة التغير المناخي. وإذا كان هذا وضع الولايات المتحدة والصين وأستراليا فإن كبار الملوثين في الأرض الآخرين من اليابان إلى بريطانيا لا يتوقع أن يحققوا تعهداتهم في المدى الذي التزموا به؛ أي ما بين 2030 و2050. وأقصى ما يمكن توقعه هو الالتزام بالتحول من وسائل النقل التي تعمل بالوقود مثل البنزين والديزل إلى السيارات الكهربائية في غضون عقد أو عقدين.
لكن هذا التحول ربما لا يعدو كونه خلق أنماط استهلاك جديدة للشركات أكثر منه وسيلة ناجزة لتقليل الانبعاثات الكربونية والحدِّ من الاحتباس الحراري والتغير المناخي الناتج عنه. ففي النهاية ستعمل السيارات الكهربائية على استهلاك هائل للطاقة الكهربائية. تلك الطاقة التي يتم توليدها في محطات تعمل بالغاز والديزل والفحم. وهذا سيعني زيادة هائلة في حرق الوقود لتنبعث منه غازات الكربون بالقدر نفسه تقريبا الذي تنبعث به من عوادم السيارات التي تعمل بالوقود. أما الحديث عن توليد الطاقة الكهربائية من مصادر نظيفة مثل الشمس والرياح والوقود النووي، فحتى الآن لا يؤمل أن يمثل ذلك ربع استهلاك العالم من الطاقة وستظل ثلاثة أرباع الاستهلاك من مصادر الوقود التقليدية.