د. أحمد مصطفى أحمد:
تشهد مصر في السنوات الأخيرة عملية إعادة بناء هائلة تتكلف مئات المليارات. ورغم أن أغلب تلك الكلفة تأتي في شكل قروض، إلا أن لا مشكلة في ارتفاع معدلات الدَّين العام طالما يشهد الاقتصاد نُموا في الناتج المحلي الإجمالي في السنوات المقبلة. أغلب تلك المشروعات تتم في البنية التحتية من إنشاء طرق وتطوير وسائل النقل والمواصلات وخطط تعمير وإنشاء مساكن جديدة. وكلها مهمة للمستقبل، حتى وإن لم يشعر المواطن العادي بفوائدها المباشرة حاليا. لكن الأهم في تصوري، والذي لا يحظى بالقدر الكافي من التغطية الإعلامية، هو ما يتم على صعيد توسيع الرقعة الزراعية في مصر باستصلاح مئات آلاف الأفدنة في غرب الدلتا والصحراء الغربية جنوب مصر وفي شبه جزيرة سيناء. فالمساحة الخضراء التقليدية في مصر متمثلة في الشريط الضيق حول نهر النيل من صعيد مصر حتى القاهرة والقناطر الخيرية، ثم منطقة الدلتا، تتآكل حجما منذ عقود مع زحف المباني السكنية على الأرض الصالحة للزراعة نتيجة الارتفاع المطرد في تعداد السكان.
ورغم أن إقامة المدن الجديدة وشق الطرق في المناطق الصحراوية كفيل بتخفيف ضغط الاكتظاظ السكاني على المساحة الخضراء الضيقة على ضفاف نهر النيل وفروعه، إلا أن ذلك ليس كافيا لتعويض التدهور الذي شهدته الزراعة في مصر على مدى نصف قرن. ذلك التدهور الذي أدى إلى أن تصبح مصر مثلا أكبر مستورد للقمح في العالم، مع ما يستنزفه ذلك من دخلها بالعملة الصعبة. ناهيك طبعا عن تأثيره السلبي على الأمن الغذائي لشعب تتكون وجباته الرئيسية من الخبز. صحيح أن الحكومات المتعاقبة في مصر كانت تسعى أحيانا للتوسع في استصلاح الصحراء، لكن أغلب تلك المحاولات غلب عليها تحول الأراضي إلى منتجعات سكنية أكثر منها أراضٍ زراعية. ما يحدث الآن في مصر، من استصلاح وزراعة نحو نصف مليون فدان في صحراء غرب الدلتا ومثلها تقريبا في الجنوب الشرقي عند مفيض توشكى وخطط استصلاح وزراعة مساحات مماثلة من شبه جزيرة سيناء في الشرق كفيل بأن يعد ـ في رأيي ـ أهم إنجاز في نحو قرن من الزمان.
ربما لن يحل استصلاح مليون أو مليوني فدان وزراعتها أزمة الأمن الغذائي المصري تماما، لكنها بداية في غاية الأهمية لتوسع مبني على أسس هذا الإنجاز العظيم، خصوصا وأن هذا التوسع الزراعي الأخضر لم يتم استنادا إلى مدخلات محدودة من الطاقة والمياه. إنما يأتي بعدما حلت مصر إلى حد كبير معضلة النقص في الطاقة. فمع اكتشافات الغاز فيها وبناء محطات توليد الطاقة الشمسية الهائلة (باستثمارات بالمليارات أيضا) لن تكون هناك مشكلة في التوسع أكثر في استزراع الصحراء. أما مشكلة المياه، ورغم الأزمة مع إثيوبيا بشأن السَّد الذي نقيمه على النيل الأزرق، ويهدد حصة السودان ومصر من مياه النهر، فإن التوسعات الزراعية المصرية تعتمد أحدث أساليب الري التي توفر المياه بقدر كبير. كما أن من بين المشروعات الكبيرة التي تتم في مصر معالجة مياه الصرف، والصرف الزراعي بخاصة، لإعادة استخدامها في الري بكفاءة عالية.
لا أستطيع وصف شعور الغبطة حين شاهدت مساحات القمح الخضراء الشاسعة في توشكى وأيضا آلاف الأفدنة التي يتم زرعها بالنخيل في المنطقة. كذلك خطوط الطرق، الضرورية لربط الصحراء بمناطق العمران وأسواق الحصول على لوازم الزراعة وتسويق المنتجات، التي تربط توشكى بشبكة الواصلات الرئيسية للجنوب حول نهر النيل. هذا الإنجاز الأخضر المستدام ربما يفوق في أهميته بالنسبة لمصر والمئة مليون من سكانها بقية الإنجازات التي تتم في السنوات الأخيرة وتبدو من حيث الكلفة والقيمة أعلى بكثير. فمن لا ينتج قوت يومه لا يستطيع أن يحقق الكثير في بقية نشاطات الحياة وهو آمن مطمئن؛ لأنه يظل دوما عرضة لتقلبات أسواق الغذاء العالمية، فضلا عن أن تلك المشروعات، حتى لو كانت تقوم بها شركات حكومية بالأساس، توظف أعدادا كبيرة من العاملين فتمتص قدرا معقولا من البطالة المتفشية في مصر. لكن الأهم هو استدامة ذلك النهج الأخضر الكفيل باستمرار خفض معدلات البطالة مع توجُّه الكثافة السكانية خارج الشريط الأخضر الضيق القديم.
تبقى المشكلة أن ذلك يأخذ وقتا وكلفة، ولا يشعر المواطن العادي إلا بزيادة الأعباء المالية عليه آنيا. وليس هناك جهد كافٍ، خصوصا من الإعلام في مصر، للتوعية بأن ما يتم الآن سيأتي مردوده فيما بعد بشكل أفضل بكثير. نعم، العبء هائل حاليا على الغالبية من المصريين حاليا حيث تتصاعد تكاليف المعيشة، لكن لا يمكن مقارنة ذلك باحتمال أن ترك الوضع على ما كان عليه قبل سنوات كان سيؤدي إلى شبه انهيار تقريبا. طبعا هناك من لا يريد لمصر، ولا لغيرها، خيرا فيستغل صعوبة الوضع المعيشي ليؤلب الناس العادية على حكوماتها لأغراض سياسية. وحتى من أبناء البلد أنفسهم، هناك من اعتادوا تحقيق المكاسب الهائلة دون جهد أو عمل وكنزوا المليارات من نشاطات أقرب للسمسرة منها للإنتاج لا يروقهم أنهم لا يستفيدون تربحا من مثل هذا الإنجاز الزراعي. وأغلب هؤلاء ممن أوكلت لهم حكومات سابقة استصلاح أراضٍ في مناطق صحراوية فانتهى بها الأمر مجمعات سكنية وترفيهية لا أكثر.