في ظل قوة الصورة وتفاصيل المشهد الماثلة أمام العين المجردة تبقى كلمات الوصف المنثورة على سطور الأحداث مجرد تفاصيل لا لزوم لها، فكل الكلمات والحروف المصفوفة في سياقات الإطناب أو الإيجاز حول المشاهد المروعة لضحايا الإرهاب الضارب أطنابه في جهات الأرض الأربع، وكل الكلمات والحروف سواء كانت شدة أو رخاوة في الإدانة لن تحل مشكلة ولن تعيد أرواحًا بريئة، ولن تشفي جراحًا أُكْلِمَتْ ولن تعيد بسمةً إلى جسد اقتُطعت منه أعضاؤه أو اغرورق في دمائه، كما أنها فاقدة لبريقها ذابلة لتلوث فكر منبعها وعدم مصداقية مصدرها، مثلما تفقد الورود بريقها وتذبل حين ينقطع عنها الماء أو يكون هذا الماء ملوثًا.
كم هو مؤلم أن تستمر الأرض في الغرق في بحار الدماء المسفوكة ظلمًا وعدوانًا وإرهابًا في العالم وفي منطقتنا خاصة رغم العواصف الثلجية التي تضرب بغزارة وعنف، ويتم إخضاع رقاب الشعوب تحت مقاصل الإرهاب، وتدق الرؤوس بمطارقه لإشباع نزوات، وإرواء شهوات، وتنفيذ مشروعات، لتستمر معها حفلات دموية راقصة مجنونة تختزل بها وفيها قضايا الحق والخير والعدل في سويعات تنفيس صاخبة مشحونة بالعواطف المحمومة، وأحيانًا المنفلتة عن كل قاعدة أخلاقية، والتي بدأت تتحول فيها دفة الأمور إلى حيث لا تحتسب ريح الأحداث بضررها، وتجبر طابخي حصى التآمر وسم العدوان والإرهاب على تناول ما صنعته أياديهم.
وعلى الرغم من هذا الإجبار رُغم الأنف الذي لم تنفع معه الموالاة ولا التمويل، فإن طابخ الحصى والسم يبدو أنه لا يزال يكابر ولا يريد أن يعترف ـ ولو على استحياء ـ بأن الزرع خيرًا كان أو شرًّا نهايته الحصاد، وأن من يربي الأفاعي والعقارب لن يسلم يومًا من سمومها، بل إنه يتوهم بأن تعديلًا ولو قليلًا في مقادير الطبخة سيكفل له مذاقًا طيبًا، وذلك بمواصلة استثمار تجاوزات (الإرهاب وأدواته) في قلب الحقائق وترسيخ صورة ذهنية بدائية عن سيرة قوم فاتهم قطار التاريخ، وتذيلوا موكب الحضارة الإنسانية ولا حق لهم في الحياة!!
ولعل الصدق مع النفس، يقتضي الإقرار بأن ما يشهده العالم عامة ومنطقتنا خاصة من إرهاب جارف وجامح قد تم توجيهه إلى ما لا ينبغي أن يكون، قصدًا وإصرارًا لقلب مسيرات المطالب المشروعة إلى كرات لهب متدحرجة، وتجعل من مطالبهم محفلًا إرهابيًّا انتحاريًّا تسيل فيه دماؤهم وتزهق فيه أرواحهم، بل ويأخذ الإرهاب والانتحار مداهما ليس فقط إلى حد تدمير البنى التحتية وحرق كل ما اخضرَّ فوق الأرض، وإعادة إهلاك من هلك ورقد تحت الأرض على مر السنين، وإنما إلى حد اقتحام المؤسسات الإعلامية والأمنية والبعثات الدبلوماسية وقتل أفرادها. وأمام هذا الإرهاب المستطير يتوهم الداعمون لنيرانه ومواقده والشاحذون لسواطيره من غلاة الاستعمار والتآمر والعمالة والخيانة بأنهم في مأمن بركونهم إلى المقاعد الوثيرة في غرفهم المكيفة، وبأنهم في معزل ما دامت أياديهم سخية على الإرهاب وأدواته، وهو توهم ـ بلا شك ـ يعبر عن مدى الحماقة والسفاهة التي أصابت عقولهم في مقتل، متناسين مبادئ العدالة "كما تدين تدان" و"طابخ السم آكله" و"من حفر حفرة لغيره وقع فيها"، وأن الإرهاب لا سيد له يتحكم فيه، وإنما ولاؤه لمن يدفع أكثر.
ألم يحن الأوان أن يفيق الواهمون من أوهامهم ويعيدوا حساباتهم ويقفوا مع أنفسهم وقفة صادقة مع النفس تنظر للحاضر والماضي لتبحث عن المستقبل، وما حديث المستقبل سوى قدر من التفكير العاقل وتحسس مواطئ الأقدام قبل أي خطوة؟