سعود بن علي الحارثي:
في عام ٢٠٠٢ نشرت هذه الجريدة الغرَّاء (الوطن) أول مقال لي، تحت عنوان "دروس من العاصفة"، طالبت فيه بأخذ الدروس، والاستفادة من تجربة العاصفة التي أثرت على مدينة صلالة آنذاك، وقارنت بين مشهد شلالات "دربات" الهادرة التي كانت تعرضها شاشة تلفزيون سلطنة عُمان في نقل مباشر، وبين مئات الشلالات الافتراضية التي سوف تلقيها جبال مسقط على بطون أوديتها الجارفة المتجهة إلى شواطئ القرم والغبرة والعذيبة وعشرات المناطق الأخرى، فيما لو تأثرت العاصمة بعاصفة أو إعصار ما، وهو ما حدث وتكرر مرارا بعد ذلك التاريخ. أتبعت هذا المقال بنشر عشرات أخرى خلال العقدين المنصرمين، تناولت مشكلة التخطيط والأمطار التي تحوِّل مدينة مسقط إلى منطقة منكوبة، وتفضي إلى خسائر مادية جسيمة في ممتلكات المواطنين وفي البنية التحتية، وتثير الخوف والرعب في القلوب تحسبا للنتائج قبيل وأثناء أي حالة مطرية يعلن عنها. في السنوات الأخيرة تضاعفت الحالات المدارية التي تتشكل في بحر العرب، والكثير منها تأثرت به السلطنة وتسببت في كوارث وخسائر كبيرة. ويبدو أن البلاد كذلك، في طور استقبال حالات مطرية شتوية هي الأخرى زادت عن معدلاتها مقارنة بالسنوات القليلة الماضية، وباتت تشكل ضغطا وإرهاقا على الحكومة والمواطنين المتضررين على السواء، كما أن التوسع العمراني والنمو السكاني وزحف المناطق السكنية والتجارية الجديدة التي لم تراعِ الجودة في التخطيط ولا إقامة قنوات حديثة ومتطورة لتصريف مياه الأمطار، وواصلت الاعتداء على مجاري الأودية والشعاب... جميعها فاقمت من المشكلة، وجعلت من العاصمة مسقط ومناطقها عرضة للفيضان ومدعاة للتندر على سوء التخطيط وقت الأمطار التي تثير الفوضى، وتتسبب في إغلاق الشوارع والطرق الرئيسية وإغراق المنازل والأسواق والمؤسسات الحكومية والخاصة. وبالرغم من التوجيهات السامية المتكررة من قبل المرحوم جلالة السلطان قابوس ـ طيَّب الله ثراه ـ بعد إعصار "جونو"، وجلالة السلطان هيثم ـ حفظه الله ورعاه ـ على ضوء الخسائر التي تسبب فيها "شاهين"، أخيرا، بسرعة معالجة مشكلة التصريف خصوصا في المناطق السكنية المنخفضة، إلا أن التحجج بأن المخصصات المالية لم تعتمد باتت هي الرهان الذي يلجأ إليه بعض المسؤولين في الجهات المعنية لإسكات الشكاوى والمطالبات المستمرة الخاصة بملف الأمطار والتخطيط التي تحتشد بها ملفاتها بشكل متواصل منذ ٢٠٠٧ وحتى اليوم، دون نتيجة أو مؤشر بحلحلة ومعالجة هذه الأزمة أو الكارثة التي أثقلت كواهل المواطنين. لقد تم تحميل مئات الفيديوهات والصور في وسائل التواصل عارضة مشاهد الفوضى التي عمت شوارع ومناطق وحارات محافظة مسقط، صباح يوم الثلاثاء الماضي، تسببت فيها حالة مطرية عادية جدا لم يستغرق الهطول منها أكثر من ساعة، فكيف لو استمر ليوم كامل أو أكثر؟؟ لقد غرقت مئات البيوت ودخلت الشعاب والأودية المنازل فأتلفت الأثاثات والممتلكات في حارات راقية، وفقدت مئات السيارات، وأغلقت الشوارع، وسيطر الرعب والخوف على الأُسر التي قادها حظ سكناها في مناطق منخفضة أو تقع في مجاري أودية وشعاب، وأطلقت في ذات اليوم آلاف التغريدات التي تناولت الوضع الكارثي، وعبَّرت عن الامتعاض والتندر والاستغراب والإحباط والاحتجاج والألم، وعرض المواقف المؤسفة التي حدثت للكثير من المواطنين وأبناء المجتمع. قال الإعلامي المختار الهنائي "أمطار لم تستمر أكثر من ساعة وتشل الحركة بالكامل في أكثر منطقة حيوية في العاصمة مسقط، لو أننا حسبنا قيمة الخسائر خلال خمسة أعوام، ستكون كفيلة ببناء شبكة تصريف تستطيع الصمود أمام هذه الحالة غير الاستثنائية أبدا"، فيما أشار عضو مجلس الشورى مالك اليحمدي إلى أنه "سابقا كان يقال بأن السلطنة واقعة في دول الحزام الجاف ولا جدوى من عمل شبكات التصريف المكلفة لمياه الأمطار؛ اليوم ومع تكرار الحالات المطرية والمناخية وما ينتج عنها من أضرار جسيمة في الأرواح والممتلكات أصبحت قنوات التصريف ضرورة قصوى". نصر البوسعيدي علق قائلا "نحن حاليا في مأساة! الشوارع انطمرت بالمياه! الشرطة في كل مكان متعبين ينقذون هذا وذاك! المياه لمنتصف أبواب سياراتنا! الطرق مزحومة والجميع في ورطة! لا أدري أي مسؤول يرضى بذلك؟!..."، يونس الرواحي أحد سكان منطقتي المتأثرين بجميع الحالات المطرية ومنها منخفض "العزم" علق مستاء "المهزلة الحاصلة في مناطق ولاية بوشر... ليست بجديدة وقد حصلت من قبل... الحلول تمت مناقشتها مع الجهات الرسمية منذ زمن بعيد ولكن ما زلنا نعاني من ارتفاع منسوب المياه... تكاليف الإصلاح ليست بسيطة ويتحملها المواطن بنفسه ولكن إلى متى؟ المسألة ليست مادية فقط ولكن نفسية أيضا متعبة، أتمنى أن يعايش المسؤول الحالة التي يعيشها المواطن في هذه المناطق ونرى تطبيق الحلول التي تأجلت بسبب الميزانية". فهل يعقل تجاهل أو التغاضي أو التسويف عما يحدث؟ وهل ستتواصل تلك المشاهد التي تؤثر على صورة عُمان مع كل حالة مطرية؟ وهل ستظل مناطق بأسرها وشرائح واسعة من المواطنين عرضة للخطر والخسائر والهلع والخوف عند سقوط الأمطار؟ في إعصار شاهين حاصرت المياه منازل جيراني في منطقة العذيبة التي أسكنها، ودخلت في بيوتهم وأتلفت الأثاثات والممتلكات وأغرقت عددا من السيارات، وظل بعضهم غير قادرين على مغادرة بيوتهم لمدة ثلاثة أيام، وعاجزين عن الصلاة في المسجد المجاور لهم. واليوم، في منخفض "العزم" يتكرر المشهد، في مسلسل لا تعرف نهايته، إن كانت له نهاية، وهاجس سكان المنطقة الأكبر أن تتضافر مشكلتا المناسيب المرتفعة في المياه الجوفية من جانب والأودية من جانب آخر في انهيار منازلهم. قابلنا مدير عام بلدية بوشر، وأكد على إحاطته وعلمه ودرايته بفداحة المشكلة وعلى تضامنه مع سكان المنطقة، وأطلعنا على المخططات المعدة منذ سنوات لتصريف مياه ومجاري الأمطار والشعاب، ولكنهم لم يتمكنوا من إنجاز المشروع بسبب أن الجهة المختصة رفضت اعتماد المخصصات المالية، مع أن المخاطبات والشكاوى والمراجعات بدأت في عام ٢٠٠٧ بعد إعصار جونو وحتى اليوم في حالة منحفض "العزم"، في 2022 وهو ذاته العذر، فلماذا لا تنفذ التوجيهات السامية بشأن هذا الملف والتي مضى عليها عقد ونصف العقد؟ مشكلة المياه الجارفة في منطقتنا ـ مثالا ـ تنمو وتتعقد وتتسبب في خسائر أكبر، وترسم لمجاريها مسارات وطرقا وشوارع أكثر اتساعا وامتدادا، وتغرق منازل جديدة، بسبب بناء المزيد من العمارات في مجرى الشعبة وردم الإقطاعيات الضخمة التي يمتلكها أثرياء ونافذون، في تجاوز وتجاهل للتعليمات السامية أولا، ولمصالح وحقوق المواطن ثانيا، وغياب للشعور الإنساني الذي يلزمهم بالإسهام والمشاركة في معالجة المشكلة التي تسببوا بشكل كبير في تفاقمها. ما يؤلمني بحق أن عددا من هؤلاء الجيران يفكرون اليوم، في عرض بيوتهم للبيع ومغادرة المنطقة إلى أخرى أكثر أمانا، والحزن والأسى والإحباط يعتصرهم، بعد أن فقدوا الأمل في تنفيذ مشروع المعالجة المنتظرة. نتطلع بأن ترفع كل من محافظة وبلدية مسقط تصورا عاجلا إلى عاهل البلاد المفدى ـ حفظه الله ورعاه ـ بمعالجة مشكلة تصريف الأمطار في جميع المناطق المتضررة والمتأثرة وبشكل عاجل.