د. رجب بن علي العويسي:
العاشر من يناير من عام 2020 يوم عُمان الحزين، وتأريخها الذي سلب منها بصيرتها وبصرها، وحياتها ونهضتها، وأملها وسندها، سلطانها المعظم الأجل الأكرم، الأب الحاني، قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه ـ يوم اختلطت فيه الأفكار، فلم تعد فيه النفوس تقوى على التفكير، وجع فيه العمانيون بخبر مفزع، وحدث مفجع، وموقف صعب؛ السماء مظلمة، والشوارع هادئة، البيوت تصرخ، والأرض تئن، والناس تبكي، النفوس مضطربة، والعقول مشوشة، والأرض موحشة، والسماء تمطر بغزاره، الرياح قوية، وكأنها تقتلع كل شيء، لم يعد الأمر سهلا، ولم تعد النفوس قادرة على تصديق ما يحدث، أو حتى التفكير بأن السلطان قابوس بن سعيد الذي يعاني مرارة المرض وشدته قد مات، كل شيء يسير على غير عادته، الحياة أصبحت مخيفة، الحزن يخيِّم على كل شيء، القلق، الخوف، الألم، البكاء، الدهشة، الاستغراب، لا مجال للنوم، ولا فرصة لغفوة العين، هناك شيء غير طبيعي يحدث في وطني، أشياء تحدث بخفية وفي خيفة من الأمر، تحركات وهمسات الرجال وحماة الوطن وثغوره وعيونه الساهرة عليه، حالة طوارئ يعيشها وطني، ماذا يحصل؟ ماذا يحدث؟ غصة في القلب، وضيق في النفس، وشعور باليأس والإحباط، الحياة لم تعد كما كانت، هناك خبر صعب سيقع علينا وقع السهام، لقد مات السلطان قابوس بن سعيد، انتقل حبيب الشعب إلى جوار ربه، أخذت السماء الأمانة التي أودعتها لعُمان، بعد أن أكملت رسالتها، وأدت دورها، وأخلصت في عملها، ورسمت لعُمان طريقها في العالمين، رفعت الأقلام وجفت الصحف.
لم يكن موت السلطان قابوس بن سعيد فاجعة وطن أخلص له، ومصابا جللا لأمة عرفته في أصدق مواقفه النبيلة وتضحياته الجسيمة وإنسانيته وكرمه وعطائه الممدود وسعيد المعهود نحو الإصلاح والصلح، والوحدة والتكامل؛ بل فاجعة إنسانية كان لها وقعها على كل جنبات الأرض وتأثيرها على العالم بأكمله، فقد فقدت الإنسانية المعاصرة، سلطان السلام والرحمة والتعايش والوئام والنهضة والبناء والتطوير، فقدت السلطان المعظم، والقائد الملهم، والقيادي المحنك، والإنسان المخلص، والأب الحاني، صاحب الابتسامة والروح الإيجابية، والفكر الناصح والعقلية الاستراتيجية، والتراث والحضارة والإرث، صاحب الجلالة، مزون الحكمة، ولسان حال كل واحد من أبناء عُمان يقول: يا ليتني متُّ قبل هذا، وكنت نسيا منسيا، ليتني لم أعش إلى اليوم الذي مات فيه السلطان قابوس بن سعيد، فقد أحدثت فينا وفاته حدثا عميقا، وأمرا جسيما، وهولا عظيما، فلله الأمر من قبل ومن بعد، وإليه الرجعى وهو المرتجى، بأن يربط على قلوبنا، ويحفظ وصية السلطان قابوس فينا، ويلهمنا حسن الدعاء له، والسير على نهجه، والوصول بعُمان إلى ما أراده لها من خير ونهضة وتقدم، ليبقى حبه يسري في أوردتنا وشرايينا، وعشقه خالدا في وجداننا وذاكرتنا، لا يغيب عنها لحظة.
مؤلم هو ذلك الفقد الأبدي يا روح عُمان، وصعب هو فراق من أحبته عُمان فكان سمعها وبصرها، وصحتها وقوتها، وقدوتها ونموذجها، وأكثر إيلاما عندما يكون الراحل أنت أيها العظيم حياتنا وأملنا وسيدنا وعضدنا وسندنا وملهمنا ووطننا وروحنا قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه. لقد رحل السلطان قابوس بن سعيد عن دنيانا الفانية إلى حياة أبقى وأعظم، رحل تاركا وطنا عظيما، وأمة قوية، وروحا عمانية تحمل الأمل الذي أوقده قابوس بن سعيد، قبل خمسين عاما من وفاته ليطفئ به شؤم الظلم واليأس والشدة والقسوة والظلام وضيق العيش، ليضيء عُمان نوره الذي تجلَّى في كل تفاصيل عُمان ودولتها ونهضتها، قبس يبقى مددا للأجيال القادمة، ونورا يمشي به سيد عُمان المجدِّد هيثم بن طارق في الناس، رحل القائد العظيم الملهم للنهضة، باني عُمان الحديثة، ومفجر طاقات أبنائها، مصلح على العرش، صاحب الرسالة والمبدأ والمواقف والبطولات والتضحيات، السلطان الإنسان، والملك المعظم، لتبقى مآثره الخالدة، شاهدة إثبات لوطن لن تغيب شمسه، وسيبقى النهج القابوس خالد في ذاكرتنا، حي في قلوبنا، طريقنا لقراءة المستقبل، وإلهامنا لرسم ملامح مضيئة نصنعها لعُمان عزة وفخرا، وقوة ومهابة، وإخلاصا وإنجازا، نهر يتجدد في دماؤنا، وروح تسري في ضمائرنا، تتغنى به آمالنا وأحلامنا، إنه الخالد فينا الذي لن تنسينا السنون ذكره، ولن تشغلنا الأيام عن وصفة، ولا تثنينا الحياة عن السير في خطاه النيرة التي رسمها لنا طريقنا لنبني فيه الأمجاد، ونصنع خلاله القوة، ونحقق في سبيله الطموح.
ومع ذلك فقد شكلت هذه الفواجع والمواجع والأحداث محطة اختبار للذات الوطنية العمانية، أعطت خلالها الأمة العمانية دروسا عظيمة، في وفائها لسلطان عُمان الراحل، وولائها لمجدد النهضة، وصية السلطان، في تلاحم الصف ووحدة الكلمة، والطاعة المطلقة لوصية سلطان عُمان الراحل، والثقة في القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، عززتها نهضة الوعي، وصدق الإرادة، وعزيمة الرجال أبناء عُمان وبناتها، وخيوط الولاء المتجذر في الأرض العمانية، وفلسفة البناء الفكري الناضج للإنسان العماني، وأصَّلتها روح المسؤولية والشعور بوحدة الأرض، أساسها حكمة السلطان قابوس وحرص على أن تظل عُمان عنوانا للسلام والتنمية، ومنهجا في البناء والتطوير، وترسيخا لدولة القانون والمؤسسات، ليقطع دابر الشك والقلق والضبابية لما تؤول إليه الأمور، وأجاب عن التساؤلات والتخيلات والأفكار الأحادية التي كان يطرحها المواطن وغيره حول آلية تجسيد النصوص القانونية الواردة في النظام الأساسي للدولة ومجلس الدفاع آنذاك، وكيف يمكن إدارة هذا الحدث العظيم بكل أريحية وسلاسة واطمئنان. لقد فعل أبناء عُمان ذلك، وتحققت وصية المغفور له بإذن الله تعالى في تولي جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم مقاليد الحكم في البلاد لتبدأ عُمان مرحلة جديدة استمرارا لنهضتها المتجددة.
لقد كان العاشر من يناير بكل تفاصيله المرعبة وأحداثه المؤلمة، ومواقفه الصعبة وعقده الكثيرة وتحولاته المتسارعة؛ دروسا قابوسية في الحياة، كانت حاضرة في فكر القائد العظيم، يبوح بها في كل محفل، ويذكِّر بها أبناء عُمان في كل موقع وطأته قدماه الكريمتان، في صحراء عُمان وسهولها، وجبالها ووديانها، مؤمنا بأن الحياة ما هي إلا ممر وأثر طيب حسن، والعاقل فيها من دان نفسه وعمل من أجل ترك هذا الأثر للناس من بعده، وما أعظم أن يكون هذا الأثر هو عُمان، الأرض والدولة والإنسان، عُمان التصالح والتعايش والتسامح والوئام، عُمان العزة والشموخ والقوة والنصر، أما نحن أبناء عُمان فقد أصابنا ما أصابنا من الحزن والألم، فاجعة موت السلطان قابوس بن سعيد التي قصمت الظهر، وأدمت القلب، وأذهلت العقل، ورمت الفؤاد بسهم لن ينسل منها أثره، وجرح لن يلتئم عمقه، بما حمله من فواجع ونكبات، أثقلت الأرض وأرهقت النفس، وأضعفت الحال، مرحلة أسدلت فيها الستار على خمسة عقود مضت من عمر نهضة عُمان العظيمة وسلطانها المعظم، لتبقى منجزاته مآثر خالدة، وشواهد للتاريخ والأجيال على عظمة ما تحقق على أرض عُمان في عهده الميمون.
لقد ترجَّل فارس النهضة قابوس بن سعيد عن جواد الحياة، وأنهت الخمسون عاما مددها، ورفعت صحفها، وجفت أقلامها، لتأخذ مسيرة الحياة فصلا آخر امتدادا لما انتهت إليه الصفحة الخمسين؛ لتبدأ الصفحة الحادية والخمسون مسيرة البناء، بقيادة مجدد النهضة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ ما حفظ الله به تجدّد النهضة واستمرارية البناء، مددا يحيي فينا روح قابوس بن سعيد، ويلهمنا في كل محطات بناء عُمان المستقبل مواقف السلطان الراحل بتفاصيلها العظيمة ما يعزز فينا الأمل، ويبني فينا العزيمة والإرادة، ويصنع فينا روح التغيير والمبادرة والإنجاز، ويرسخ فينا تلك القيم العظيمة والتضحيات الجسيمة والمبادئ الراسخة والتوجُّهات الحكيمة التي عرفت بها شخصية السلطان الراحل لتكون للعمانيين نهرا خصبا يسير بعُمان إلى آفاق المستقبل، حافظين لوصيته، بأن نكون لسلطاننا المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ السند المتين، والناصح الأمين، معتصمين دائما تحت قيادته بوحدة الصف والكلمة والهدف والمصير، متجنبين كل أسباب الشقاق والفرقة، والتنابذ والتناحر، فلروحك مولانا السلطان قابوس بن سعيد، الرّوح والرّيحان، وطيب السلام، وسلام عليك يوم ولدت، ويوم مِتّ، ويوم تُبعث حيًّا.