د جمال عبد العزيز أحمد:
ذكرْنا في لقاءات سابقة بعضَ الوقوفِ الممنوعة في سورة النحل، وأدرنا حولها التحليل النحوي الدلالي، وعَرَفنا أن الوقوف القرآنية في أصل غاياتها، وصُلْب مقاصدها إنما تتعلق تعلقًا مباشرًا بالمعنى، وتتصل اتصالا قويًّا بالدلالة السياقية في الآية، وواضع علامات الوقف الممنوع إنما كان جل همه عدم الوقف على ما نقص معنى، وضرورة الوقف على تمام المعاني، وكمال المباني، وأسمى المرامي، وأسنى المقاصد، ونواصل في هذا اللقاء تتمَّة تلك الوقوف، ونَدُورُ حول دلالاتها، ونبين سببِ منعِ الوقف عليها، ونستنتج ضابطَها النحوي، واللغوي، وننبِّه عليه، ونشيرُ إليه، عسى أن يكون نورًا، وهدايةً لأهل التجويد،والمحفِّظين، والقائمين على شؤون التلاوة، والإجازة، لينهضوا بدورهم، ويقوموا بواجبهم في تبصير مَنْ تحت أيديهم بأسباب، وضوابط، وقواعد هذا الوقف الممنوع في تلك السورة المباركة، وغيرها من سور القرآن الكريم، ونعرض للآية الثالثة والأربعين والرابعة والأربعين، حيث إن الوقف الممنوع على نهاية الآية الثالثة والأربعين، وتبدأ الآية الرابعة والأربعون بشبه الجملة المتعلق بما قبلها، قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل 43 ـ 44).
هذه الآية تحمل الوقف الممنوع الخامس من الوقفات العشرة، والناظر بعين البصيرة يرى أن بداية الآية الثانية منهما تبدأ بالجار والمجرور(بالبينات)، وهذا شبه له عُلْقة قوية بما قبله من الفعل: (لا تعلمون)، وأشباه الجمل تتعلق بشيئين: إما بالأفعال، وإما بما يعمل عمل الأفعال، وهي المشتقات النحوية:(كاسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، وأفعل التفضيل، وصيغ المبالغة)، وقد تقدمها هنا الفعل المنفي (لا تعلمون)وهو الفعل المضارع المندرج تحت الأفعال الخمسة، فالجملة الأم تبدأ بفعل الأمر:(فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، وصحيح أنه رأس آية، وأنه من السُّنَّة الوقوفُ على رؤوس الآي حتى ولو وُجِدَ عليها علامة الوقف الممنوع(لا)، ولكنْ هذه العلامةـ كما تعلمنا من أهل التجويد زمن الطلب لقواعد التلاوة ـ أنها تعني أمورا، منها أنك لا تقف، وتغلق مصحفك، وتمضي؛ لأن الآية متعلقة في المعنى بما قبلها، فعليك أن تقف على رأس الآية؛ تحقيقا للسُّنَّة النبوية المطهرة، ثم تعيد تلاوة الكلمة التي تتمُّ مع أول الآية الأخرى المعنى الكامل، والدلالة الصحيحة؛ ليكون الوقف بعدها واضحًا مفهومًا، أو أنها تعني أن يقف القارئ، ثم يبدأ، ولا علاقة لها بإغلاق المصحف، وترك التلاوة، ولكنْالوقف يأتي تطبيقًا للسُّنَّة، ثم تعود لتقرأ من الكلمات في الآية السابقة ما ينهض باكتمال المعنى، وحصول الفائدة، والفعل:(تعلمون) يطلب الجار والمجرور؛ ليبين معناه، ويصل الاسم الظاهر بفعله:(تعلمون)، ويكون المعنى: إن كنتم لا تعلمون بهذه البيات فاسألوا أهل الذكر، ومعلوم شدة تعلق شبه الجملة بفِعْله، حيث يشكِّل معه تمام المعنى، وكمال المراد بعده، وهو قوله تعالى:(بالبينات والزبر)، وخلاصة هذا الوقف الممنوع هنا أن سببَه قضيةُ التعلُّق التي تتطلَّب المتعلقَ والمتعلقَ به، وأن حاجة شبه الجملة إلى متعلقة شديدة، وهو مفتقر إليه في أصل المعنى، ولا يمكن الاستغناء عنه بحال من الأحوال، وأنه في ارتباطه به يكون كارتباط الطفل بأمِّه، والفرع بأصله، والكل بجزئه؛ لتمام المعنى الكليِّالشامل بهما، وأنهما معًا يسهمان في أداء الدلالة القرآنية خيرَ أداء، ويكملانِها خيرَإكمال، وأتم معنى، وأدق فهما، وأشمل وعيا بمضمونها المقصود.
ونعرض للآية التي تتلوها في الوقف الممنوع، وهي الآية الرابعة والستون من السورة، وتحمل الوقفَ الممنوعَ السادسَ في تلك السورة، ونحن هنا بصدد رصد كل تلك الوقفات الممنوعة فيها؛ حتى نُتِمَّ الحديثَ عنها كلِّها حتى آخروقفممنوع ورد فيها؛لنضع الرؤية الكاملة لضوابط الوقف الممنوع في تلك السورة الكريمة، ونرصده رصدًا متتابعًا، ليفيد منه المجوِّدون، ومَنْ يجلسون في مجلس الإقراء،وليكون لهم زادا لغويًا ونحويًا يشرحون من خلاله ما على شاكلته في بقية السور القرآنية، لأنهـ من غير شك ـ سيدخل تحتَ واحد من هذه الضوابط، ويندرج تحت قاعدة من قواعدها، وسبق أن ذكرْنا أنها عشرة وقفات ممنوعة كاملة، وأنها أكبر سورة فيها وقفات ممنوعة في القرآن الكريم،هذه الآية التي يقول الله تعالى فيها:(وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
والوقف الممنوع في الآية موضوع على كلمة(فيه) التي هي شبه جملة متعلق بالفعل:(اختلفوا)، أو في محل نصب حالا، وبعدها أتى حرف العطف الذي يعطف مفردًا على مفرد، أيْ: أن الواو هنا من قبيل عطف المفردات، فالوقف على الجار والمجرور هنا لا يصح، لأن مما بعده معطوف على سابقه، وهو من تتمة المعنى الإجمالي العام للآية الكريمة، فالوقف على(فيه) لا يؤدي الهدف العام للآية، ولا يحقق المقصود الذي أرادت نقله للقارئ الآيةُ الكريمةُ، فقد أنزل الله على النبي (صلى الله عليه وسلم) هذا الكتاب الكريم لعدد من المقاصد جمعتْها تلك الآية، وهذه المقاصد هي:أن تبين للناس ما اختلفوا فيه، أيْ ترشدهم، وتجمع قلوبهم، وتبصرهم بسبب اختلافهم، وتوضيحه لهم؛ ليتحدوا، وتلتئم فرقتُهم، وتتوحَّد قلوبُهم؛ ومن ثم فهم يتجنبون هذا الاختلاف، ويتجاوزون تلك الفرقة من خلال بيانِك لهم في الكتاب المنزَّل؛ ولذلك لم تعدْ هناك حجة لأيِّ مختلِف اختلافًا يدعو إلى الفرقة، والضعف، والتشتت، فمَنْ فعل ذلك فقد تنكَّبَ طريق الإسلام، وشذَّ عن مقاصده، وبَعُدَ عن أهدافه، فقد نزل القرآن الكريم ليجمَعهم على قلب رجل واحد؛ مصداقا لقولهتعالىفي سورة الحج:(وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج ـ 78)، ونزولا على المقصد الأسمى للإسلام، في قوله جل جلاله:(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران ـ 103).
ثم ليكون القرآن بعد هذا البيان هدًى، ومصدر هداية، وموطن إرشاد، ومحل توضيح، وشارة تِبْيان، وليكون في النهاية رحمة لكلِّ مَنْ آمن به، والتزم بتعاليمه، وهم القوم المؤمنون بربهم، المسلِّمون له، المهتدون بهديه، الماضون في صراطهم المستقيم وراء نبيهم الكريم:(..وهدى ورحمة لقوم يؤمنون).
فكل تلك الأهداف نزل القرآن ـ في تلك الآية ـ ليبينها للمؤمنين؛ ومن ثم فالوقف التام على آخر الآية يحقق تلك القيم، وأن الوقف على:(فيه) فيه تضييقٌ لمعناها الواسع، وتقييدٌ لأهداف القرآن الكريم، ومراميه، وهو ما لا يجوز للقارئ أن يقع فيه، وعليه أن يقرأ، ويتلو وفقًالقواعد التجويد، المرتبطة في الوقت نفسه بالقواعد النحوية، وهما معا مرتبطان بالمعاني والدلالات الشرعية كما سبق.
وأما الوقف السابع من تلك الوقفات الممنوعة في هذه السورة الكريمة فهو ما ورد في الآية السادسة والسبعين التي يقول الله تعالى فيها:(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُبِالْعَدْلِوَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النحل ـ 76).
فعلامة الوقف الممنوع موضوعة على كلمة (بالعدل) بحيث يصل القارئ شبه الجملةهذا بالمعطوف بعده؛ ليتم المعنى المراد، أي هل يستوي هذا الأبكم الذي لا يُبِينُ، ولا يُضِيف شيئا في الحياة، وهو كَلٌّ وضعيف على مولاه، وعالةٌ علىعائله، لا يفيده، ولا يقدِّم له شيئا ذا بال، وأينما يوجهه فلا يجد منه خيرًا يرجى، ولا نفع منه، ولا طائل من ورائه، فهل يستوي هذا الخامل الراكد الكاسد الفاسد، وهذا الرجل الذي عرف رسالته في الحياة، وأتقن مهمته في الوجود، فهو يعدِّل المعوَجَّ، ويُقِيم المائلَ، ويمضي في حياته مترسِّما أنهج الطرق، وهو الطريق الحقة، والصراط المستقيم، ويكون ملمًّا بغاياته، مدرِكًا لهدفه، عاملًا له، مفيدا غيرَه، إنسانا فعَّالا، وكريمًا عاملا، مخلصا معطاء، أينما وجهتَه لم تجد منه إلا خيرا، وجِدًّا واجتهادًا، لا كسلا وخمولا، ومللا ونوما وكسادا، فهو معنى كليٌّ كبيرٌ يتطلب استمرار القراءة؛ ليتم هذا المعنى الإيماني الجليل، وتظهر الشخصيتين بوضوح: شخص الخامل الضعيف البعيد عن الله، العالة على غيره، وشخصية المؤمن الناضج، الموصول بالله، العامل لدعوته، المتقِن لرسالته، الذي وضَح أمامه السبيل، فانكشفت له الغاية، فهو يسعى لها، لا يلوي على شئ، ولا يثنيه عن غايته شيءٌ، فهما في شرع القرآن الكريم لا يستويان، فكان لزامًا على القارئ ألا يتوقفَ عن التلاوة حتى يعطيَنا تلك الدلالة، وهذه القيمة الأخلاقية، والدينية كاملة تامة؛ ومن ثم كان الوقف الممنوع على كلمة(بالعدل) أولًا: لتعلقها بما قبلها تعلق الشيء بجزئه، والجسد بقلبه، فهو يأمر بالعدل، كما أنها ثانيًا: جملة فعلية معطوفة على سابقتها، وبعدها جملة اسمية معطوفة على سابقتها، وكلٌّ من الجملتين: الفعلية، والاسمية المعطوفتينتكشفان عن طبيعة هاتين الشخصيتين، وتعطيان صورة إجمالية لكلٍّ منهما، وكان العطف، والتعلق هما الأساس في ذلك الوقف الممنوع، حيث إن التعلُّق من بين أركان وأعمدة التماسك النصي، وكذلك يأتي العطفُ بنوعيه: إفرادًا، وجملة ليزكِّيَ قضية الترابط النصيِّ، والتناغمَ الجمليِّ، وكأنك تقرأ جملة واحدة متكاملة، ترسم بها صورتين متنافرتين تمامًا، واحدة فيهما سوداءُ، تحمل كلَّ ملامح الخمول، وعلامات الغباء، ودلائل الكسل الاتكالية، والجهل ، وأخرى بيضاء، تحمل كلَّ معاني العلم، والعمل، والجد، والاجتهاد، والنور، والأمل، والرجولة، والشموخ، والاتصال بالله، وهي شخصية محبوبة، تمضي في طريقها، واثقة الخُطى، واضحة الغاية، صحيحة المسلك، عالمة برسالتها، ملمة بوظيفتها، مدركة لرسالتها، عاملة لها، ساعية إليها.
هذا، ونكمل حديثنا حول ما تبقى في السورة الكرمة من وقفات ممنوعة في لقاء آخر، نسأل الله ـ جل جلاله ـ أن يبصِّرنا بجلال القرآن الكريم، وكمال دلالاته المرتبطة بجمال وقفاته، ويجعلنا ممَّن عايَشه بحق، وتلاه بصدق، ووقف عند كل حرف فيه يستجليه، ويستمطر كلَّ ما فيه، ويتوقف أمام معانيه، وكمال مراميه، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية.
[email protected]