محمود عدلي الشريف:
إخوة الإيمان:فلا يزال حديثنا يتوالى حول العام الجديد، والرد على تكهنات بعض المنجمين الذين يقولون ما لا يعلمون، فليس هناك أيام شؤم يسودها البشر من تلقاء أنفسهم، وإنما الإرادة الإلهية هي التي تصنع ما تشاء، وقد سبق وتحدثت في اللقاء السابق عن ذلك التشاؤم ـ وهو قطعًا بلا دليل ـ وهو ما يجرف بعض الناس إلى سب الدهر وهو منهي عنه ـ كما أشرت سابقًاـ فما ذنبالزمان أو الليالي والأيام والساعات؟ وهي خلق من خلق الله، فيا من يعيب أو يسب أو يقبِّح الزمن هل بفعلك ذلك تعتقد أنها هي التي تفعل ما يحدث فيها من الأفراح أو المصائب، فإذا كان الأمر بالإثبات بمعنى إضافة الفعل إلى الدهر والزمان فراجع إيمانك، وإذا كان بالسلب فلماذا تقبَّحها؟، وقد دلعلى تحريم ذلك آيات كثيرة من القرآن الكريم،فقد ذم الله تعالى الكفار بقوله:(وَقَالُوامَاهِيَإِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُوَمَالَهُمْبِذَٰلِكَمِنْ عِلْمٍ إِنْهُمْإِلَّايَظُنُّونَ) (الجاثيةـ٢٤)،وقد جاء (نَهْيِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ وَقَالَ:"إِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ"، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ "لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ"،وفِي هَذَا ثَلَاثُ مَفَاسِدَ عَظِيمَةٌ،إِحْدَاهَا: سَبُّهُ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسَبَّ، فَإِنَّ الدَّهْرَ خَلْقٌ مُسَخَّرٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، مُنْقَادٌ لِأَمْرِهِ مُذَلَّلٌ لِتَسْخِيرِهِ، فَسَابُّهُ أَوْلَى بِالذَّمِّ وَالسَّبِّ مِنْهُ،والثَّانِيَةُ: أَنَّ سَبَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلشِّرْكِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا سَبَّهُ لِظَنِّهِ أَنَّهُ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ ظَالِمٌ قَدْ ضَرَّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الضَّرَرَ، وَأَعْطَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَطَاءَ، وَرَفَعَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الرِّفْعَةَ، وَحَرَمَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْحِرْمَانَ، وَهُوَ عِنْدَ شَاتِمِيهِ مِنْ أَظْلَمِ الظَّلَمَةِ، وَأَشْعَارُ هَؤُلَاءِ الظَّلَمَةِ الْخَوَنَةِ فِي سَبِّهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ يُصَرِّحُ بِلَعْنِهِ وَتَقْبِيحِهِ،والثَّالِثَةُ: أَنَّ السَّبَّ مِنْهُمْ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ الَّتِي لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ فِيهَا أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَإِذَا وَقَعَتْ أَهْوَاؤُهُمْ حَمِدُوا الدَّهْرَ وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ. وَفِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، فَرَبُّ الدَّهْرِ تَعَالَى هُوَ الْمُعْطِي الْمَانِعُ، الْخَافِضُ الرَّافِعُ، الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ، وَالدَّهْرُ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، فَمَسَبَّتُهُمْ لِلدَّهْرِ مَسَبَّةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِهَذَا كَانَتْ مُؤْذِيَةً لِلرَّبِّ تَعَالَى، كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ" فَسَابُّ الدَّهْرِ دَائِرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا: إِمَّا سَبَّهُ لِلَّهِ، أَوِ الشِّرْكُ بِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الدَّهْرَ فَاعِلٌ مَعَ اللَّهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ، وَهُوَ يَسُبُّ مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ سَبَّ اللَّهَ..اه) (زاد المعاد في هدي خير العباد 2/ 323).
وهنا سؤال يطرح نفسه وهو يقول: ما معنى قوله:(فأنا الدهر)، جاء في تفسير الألوسي المسمى(روح المعاني 13/ 151):(والمعنى أن الله تعالى هو الدهر أيالمصرّف المدبر المفيض لما يحدث، وفيه بعد).
وهنا أرى سؤالًا يطل برأسه صارخًا: إذا كان الله تعالى قد وصف في كتابه العزيز بعض الأيام بأنها نحسات، فلماذا لا تكون هناك أيام مثلها؟ وأقول له: نعم وصف الله تعالى أياما معينة بأنها نحس أو نحسات أو عصيبة، ولكنها أيام أهلك فيها أقواما مثل قوم هود وقوم لوط،يقول الفخر الرازي:(استدل الاحكاميون من المنجمين بهذه الآية على أن بعض الأيام قد يكون نحسًا وبعضها قد يكون سعدا، وقالوا هذه الآية صريحة في هذا المعنى، أجاب المتكلمون بأن قالوا أيام نحسات أي ذوات غبار وتراب ثائر لا يكاد يبصر فيه ويتصرف، وأيضا قالوا معنى كون هذه الأيام نحسات أن الله أهلكهم فيها، أجاب المستدل الأول بأن النحسات في وضع اللغة هي المشئومات لأن السعد يقابله السعد، والكدر يقابله الصافي، وأجاب عن السؤال الثاني أن الله تعالى أخبر عن إيقاع ذلك العذاب في تلك الأيام النحسات، فوجب أن يكون كون تلك الأيام نحسة مغايرا لذلك العذاب الذي وقع فيها)(مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير27/ 553)، جاء في(التفسير الوسيط)للطنطاوي (14/ 107):(فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ أي: في يوم مشئوم عليهم، وشؤمه دائم ومستمر لم ينقطع عنهم حتى دمرهم.قال ابن كثير: قوله: مُسْتَمِرٍّ أي: مستمر عليهم نحسه ودماره، لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي،وإضافة "يوم" إلى "نحس" من إضافة الزمان إلى ما يقع فيه، كقولهم: يوم فتح خيبر، والمراد أنه يوم منحوس ومشئوم بالنسبة لهؤلاء المهلكين، وليس المراد أنه يوم منحوس بذاته، لأن الأيام يداولها الله تعالى بين الناس، بمقتضى إرادته وحكمته)،قال ابن كثير: ومن قال إن اليوم النحس المستمر هو يوم الأربعاء وتشاءم به لهذا اللهم فقد أخطأ وخالف القرآن، فإنه قال في الآية الأخرى:(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) ومعلوم أنها ثمانية أياممتتابعات فلو كانت نحسات في أنفسها لكانت جميع الأيام السبعة المندرجة فيها مشؤومة. وهذا لا يقوله أحد، وإنما المراد في أيام نحسات أي عليهم) (البداية والنهاية 1/ 128).
وجاء في (أوضح التفاسير) (1/ 584):(فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ):مشئومات، لوقوع العذاب فيها، أما سائر الأيام: فلا شؤم فيها، إنما يتولد الشؤم من المعاصي، وإتيان ما يغضب الله تعالى، ويستوجب عقابه)، ويقول ابن عاشور في (التحرير والتنوير 27/ 193):(وَلَيْسَ فِي الْأَيَّامِ يَوْمٌ يُوصَفُ بِنَحْسٍ أَوْ بِسَعْدٍ لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ تَحْدُثُ فِيهِ نُحُوسٌ لِقَوْمٍ وَسُعُودٌ لِآخَرِينَ، وَمَا يُرْوَى مِنْ أَخْبَارٍ فِي تَعْيِينِ بَعْضِ أَيَّامِ السَّنَةِ لِلنَّحْسِ هُوَ مِنْ أَغْلَاطِ الْقَصَّاصِينَ فَلَا يُلْقِي الْمُسْلِمُ الْحَقُّ إِلَيْهَا سَمْعَهُ)،ويقول صاحب (تفسير المراغي27/ 87):(وما روى من شؤم بعض الأيام فلا يصح شيء منه، فالأيام كلها لله، لا ضرر فيها لذاتها، ولا محذور منها، ولا سعد فيها ولا نحس، فما من يوم يمر إلا وهو سعد على قوم ونحس على آخرين، باعتبار ما يحدثه الله فيه من الخير والشر لهم).
وأكتفي بهذا القدر من التفاسير لهذه الآيات الكريمة التي رد فيها المفسرون على من يصف الزمن بشيء من الشؤم أو السوء، وخلاصة ما أقصد من وراء تلك الكلمات ـ والله من وراء القصد ـ أن هذا العام القادم إلينا هو عام كسائر الأعوام وأيامه كسائر الأيام أمرها مفوض لباريها إن شاء جعلها أيام سعد وخير وبركة ـ إن شاء الله ـ ونعوذ بالله من الثانية.
فيا أيها الناس.. إن ما يحدث من أحداث رأيناها ما كنا نحسبها قبل حدوثها أو نظن وقوعها، وما سيحدث في الأيام القادمة هو من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فلماذا نتشاءم أو نستاء؟!، بل لابد أن نترك الأمر لله فهو سبحانه بيده مقادير الأمور، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

[email protected]*