د. أحمد مصطفى أحمد:
أخيرا، وبعد جلسات محاكمة لمدة أربعة أشهر، أدينت المليارديرة الأميركية إليزابيث هولمز بسبع تهم غش وتدليس واحتيال مالي في قضية انهيار شركة ثيرانوس قبل أكثر من ثلاثة أعوام. صحيح أن قضايا الاحتيال المالي منتشرة في الولايات المتحدة، إلا أن قضية إليزابيث تتجاوز ما هو شائع لاعتبارات عدة، منها ما يتعلق ببيع الوهم الصحي والطبي تحت شعارات التكنولوجيا والابتكار، ومنها ما يتعلق باستغلال التعاطف مع ضحايا التمييز على أساس الجنس أو النوع، ومنها أيضا تضخيم الإعلام لنماذج من النصابين في مختلف المجالات. ربما تكون أهمية القضية في الولايات المتحدة أن تلك المرأة التي لم تكمل العقد الرابع من عمرها تمكنت من النصب على رجال مال وأعمال كبار مثل امبراطور الإعلام روبرت ميردوخ وامبراطور التكنولوجيا لاري إليسون. لكنها بالنسبة للجمهور العادي لا تختلف عن حكاية اشتهرت في مصر بالسخرية من جهاز علاج فيروس الكبد الوبائي وأسماه الناس "جهاز الكفتة"، بعدما ذكر مخترعه الراحل في إطار استعراضه للإنجاز التكنولوجي.
لم تكمل إليزابيث دراستها الجامعية للهندسة الكيميائية، وتركت الدراسة لتدخل مجال المال والأعمال بتأسيس شركة "تكنولوجيا حيوية" وسط صرعة هذا المجال في أوساط التكنولوجيا في ولاية كاليفورنيا الأميركية. وتم الاحتفاء بها على أنها ستكون "ستيف جوبز" (مؤسس شركة آبل العملاقة) الجديد. واعتبرت الشابة الصغيرة مثالا على ما يسمى "الحلم الأميركي"، حيث تجد أغلب المليارديرات عصاميين لم يكملوا دراستهم وبدأوا بأفكار غريبة تحولت إلى امبراطوريات. أكبر مثال على ذلك هو أغنى أثرياء أميركا الآن إيلون ماسك، الذي يستطيع جمع المليارات من المستثمرين حول العالم بسهولة؛ لأنهم يرون فيه القدرة على أن يزيدها لهم ويحقق لهم أرباحا خيالية. لكن ذكاء ماسك أنه بدأ مجالا يتطور مع موجة الاهتمام بالبيئة (بغض النظر عن مدى سلامة المنتج بيئيا فعلا) فأسس شركة تسلا للسيارات الكهربائية، التي في النهاية تستهلك كهرباء تنتج بالفحم والديزل والغاز وتسبب انبعاثات كربونية هائلة.
قبل أكثر من خمس سنوات، كانت شركة ثيرانوس وإليزابيث هولمز حديث الإعلام ليس في أميركا وحدها، بل في أنحاء العالم. فقد بلغت القيمة السوقية لشركتها ثيرانوس نحو عشرة مليارات دولار وتمكنت من جمع مئات الملايين فوقها من مستثمرين كبار بعد إعلانها عن تطوير جهاز يكشف أي مرض مهما كان مستعصيا كالسرطان وغيره بتحليل دم بسيط، أسمته "جهاز إديسون". في عام 2015 نشرت صحيفة وول ستريت جورنال تحقيقا يفند وهم التكنولوجيا وراء جهاز إديسون. لكن العالم كله، بما فيه وسائل إعلامنا العربية التي تنقل كل ما هو جديد ومثير من الإعلام الناطق بالإنجليزية، كان في فورة انتشاء بالابتكار الجديد. ولم يمضِ أكثر من عامين حتى اكتشف المستثمرون أن جهاز إديسون لا يختلف عن جهاز الكفتة الذي تندر به المصريون. وطوال الفترة من 2015 وحتى 2018 حين انهارت شركة ثيرانوس، كانت إليزابيث تصر علنا على أن ابتكار شركتها التكنولوجي يسير على الطريق الصحيح. ولم لا؟ وقد اختارتها مجلة تايم مثلا ضمن أكثر الشخصيات تأثيرا في العالم واعتبرتها مجلة فوربس أصغر مليارديرة عصامية في العالم.
حتى بعد انهيار الشركة إثر اكتشاف وهم ابتكارها الطبي الخطير، بدأت إليزابيث حملة تصور فيها نفسها ضحية "الرجال" في عالم البزنس؛ لأنها امرأة شابة بيضاء ناجحة. لكن ذلك لم ينطل على أحد، خصوصا وأنها جمعت المليارات بسهولة على أساس منتج وهمي دون أن يقف في طريقها أحد. فلجأت إلى حيلة مماثلة متهمة شريكها في الشركة الذي كان حبيبها أيضا ويعيشان معا بأنه مسؤول عن انهيار الشركة بالسيطرة عليها نفسيا والتحكم فيها. لكن إدانتها هذا الأسبوع فضحت أيضا مسألة استغلال البعض لتعاطف الناس مع أي اتهام بالتمييز على أساس الجنس والنوع. وأظهر تبجحها بعد صدور قرار الإدانة بأنها لم تقترف أي خطأ أنها بالفعل ليست "نصابة" في مجال المال والأعمال، بل أيضا في مجال الأخلاقيات والسلوك الإنساني. وتلك مشكلة من يصنع الإعلام منهم نجوما بدون أي أساس حقيقي، فيصدقون أنفسهم وتتكون لديهم قناعة زائفة بأنهم عرضة للاضطهاد بسبب نجاحهم.
أعتقد أن هذه النقطة الأخيرة هي الدرس الأهم من سقوط إليزابيث، دون التقليل من خطورة الوهم في مجال الصحة العامة وغيرها. فللأسف الشديد، غالبا ما يقع الجمهور العام ضحية التضخيم الإعلامي لنماذج مبهرة ومثيرة ليكتشف متأخرا أنها لا تستحق. في الوقت نفسه، لا يمكن إغفال أهمية الإعلام الجاد والرصين الذي تمثل في التحقيق الصحفي للوول ستريت جورنال. رغم أن البعض في البداية رأى أن اتهامات الصحيفة ربما كانت من باب المنافسة في الأعمال أو حتى "الحقد" على مليارديرة شابة لم تكمل تعليمها. ورغم ما كشفته هذه القضية من كثير من المثالب، إلا أنها تؤكد أيضا على حقيقة بسيطة جدا نكاد ننساها من كثرة تفوق الزيف وتسيد الخطأ هي أنه "لا يصح إلا الصحيح" وأن الحقيقة مهما تراجعت واختفت ستظهر يوما. ولعلنا نستفيد ممن ذلك الدرس، خصوصا في صناعة الإعلام، بألا نلهث وراء ما هو مثير ومبهر دون تمحيص وتدقيق.