سعود بن علي الحارثي:
عندما أقرأ مذكرات وسير رؤساء الدول وحكامها وكبار الساسة والنافذين والمسؤولين الذين تقلدوا المناصب الرفيعة، وقادوا بلدانهم لسنوات نحو التقدم والنجاح، وشاركوا في رسم سياساتها وإعداد البرامج والخطط الاقتصادية التي أحدثت تحولات لتحقيق التطلعات المستقبلية ورفاهية وازدهار الشعوب، وعندما أكتشف ما تحتويه تلك المذكرات والسياسات من تجارب وخبرات وأسرار تعبِّر عن الشفافية وحرية التعبير وخبايا السياسات والقدرة والمكنة على معالجة المشكلات والمعيقات ومواقف مدهشة وثرية، تستحق الرصد والنشر والاستفادة من محاورها ومضامينها الثمينة، إلى جانب أنها مجتمعة تقدم تاريخ البلد الذي ينتمي إليه صاحب السيرة وخصائصه وثقافته ومعيقات التنمية فيه ومحفزات التقدم كذلك ـ عندما أقرأ هذه المذكرات والسير المهمة ـ كانت الأسئلة تراودني باستمرار عن الأسباب والمعيقات التي تمنع الحكام والساسة العرب عن كتابة مذكراتهم وتسجيل ونشر سيرهم ـ إلا الاستثناء وعلى استحياء ـ هل مرد ذلك انشغالهم وحجم مسؤولياتهم الكثيرة التي لم تترك لهم فراغا للكتابة والتوثيق والرصد؟ أم لأنهم يحكمون ويظلون في مناصبهم وفي تقلد مسؤولياتهم لعقود طويلة وقد تستمر إلى مدى الحياة؟ أم لأن سيرتهم تخلو من الإنجازات والشعور بالفخر؟ أم ليقينهم بأن شعوبهم لا تكن لهم الودَّ والتقدير ولا تحبهم ولن تقابل ما يكتبونه عن أنفسهم إلا بالمزيد من الازدراء والسخرية؟ أو لأنهم لا يؤمنون بالكتابة أصلا ولا بتقديم الإنسان لسيرته، ولا بالثقافة كلها؟ أسئلة كثيرة وكل تلك الاحتمالات تصلح منفردة أو مجتمعة لتشكل الإجابة عليها. الكتاب الذي في يدي وأنا أسجل هذه الملاحظات، وأعمل على تقديم قراءة عنه أو مختصر لمحتواه ومضامينه بعنوان "الأرض الموعودة" لـ"باراك أوباما". و"باراك أوباما"، ليس كأي رئيس آخر، للولايات المتحدة الأميركية، فهو أول أميركي من أصل إفريقي، يحكم أقوى دولة في العالم، في مشهد لا لبس فيه، على أن النظام الديمقراطي بحق هو مولد الطاقات وحاضن الفرص ومحقق الطموحات مهما شذ بها الخيال، أيا كانت الثغرات والعيوب التي ألصقت به ومهما كانت تجاوزاته وأخطاؤه وانحرافاته عن مبادئه الديمقراطية، فباراك أوباما يعترف في سيرته بأن أميركا "فشلت دائما في الالتزام بمبادئها"، ولكن أليست هذه المبادئ هي التي أوصلته لسدة الرئاسة؟ و"أوباما"، تحقق حلمه بأن يصبح الرئيس الرابع والأربعين لأميركا، وهو لا يزال في مقتبل العمر وريعان الشباب، وهو إنجاز يقدم دون شك مؤشرات على عبقرية واستثنائية شخصيته وطموحاتها الفسيحة، وثقافته الواسعة التي شكلتها قراءاته المبكرة، فهو لا ينحدر من سلالة أو أسرة لها جذورها السياسية، وليس لها ميول عقدية، لذلك كانت سمات وملامح شخصيته أقرب إلى المثال الإنساني في بساطتها وتواضعها وروحها المرحة، ونبذه للتعالي ومساعدته للناس، كما أبانت عن هذه الحقيقة فصول ومراحل حياته، فسيرته ستبقى إذن محفزا ودافعا لكل إنسان طموح. وتعرض هذه المذكرات، للقدرات والمكنات والمهارات التي يمتلكها هذا الشاب الطموح، والفرص الواعدة التي توفرت له في أميركا. وفي حياته الرئاسية حدثت تحولات كبيرة، في السياسة الأميركية، تراجعت فيها الصراعات والحروب التي تقودها الحكومة في واشنطن، وخفت حدَّة لهجة ولغة التهديدات التي تتوعد بها أميركا، الحكومات والشعوب "المارقة" التي أخذت طريق الاستقلالية وخرجت عن عباءة ونهج القوة العظمى، وتمردت على تعليماتها، وفصلت بين مصالحها والمصالح الأميركية، ووقع أوباما اتفاقا نوويا مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فشهدت منطقة الخليج هدوءا استمر طوال فترة رئاسته، وشهد الاقتصاد الأميركي انتعاشا ملحوظا بعد أزمة مالية طاحنة تمكن بسياساته الذكية والمتوازنة من تجاوزها. تنبض سيرة "أوباما"، بالأسئلة والملحوظات المصحوبة بالغرابة والإدهاش، لوصوله إلى الرئاسة، وهو الطفل والشاب الذي لم يتنبأ له أحد من أفراد عائلته بأي طموح مستقبلي ولو حتى "منصبا عاما يوما ما"، ففي واحد من تساؤلاته الذي صاغه بلسان أصدقاء طفولته المدهوشين من المكانة التي وصلها "ذلك الرجل؟ كيف حصل هذا الأمر بحق الجحيم؟"، فيما يعقب هو ذاته على السؤال، معترفا بكل تواضع، "أنا شخصيا لست واثقا من امتلاكي الإجابة على هذا السؤال". الكتاب الذي تصل صفحاته إلى "800" صفحة يتعرض لأحداث ووقائع ومواقف مهمة جدا سردها صاحب السيرة بأسلوب رصين ولغة جميلة وضمنه أحداثا مشوقة، "المراحل الأولى للحملة الانتخابية ـ تعامل إدارة أوباما مع الأزمة المالية ـ المفاوضات مع الروس للحدِّ من انتشار الأسلحة النووية ـ ملف الربيع العربي...". نمت شخصية "باراك أوباما" وشب فكره وتعمقت رؤيته على تساؤلات الواقع التي فرضها محيطه، فـ"في إندونيسيا، رأيت الشرخ المتسع، بين حياة النخبة الغنية وحياة الأكثرية الفقيرة. كنت قد بدأت أعي التوترات القبلية في بلاد أبي ـ والكراهية التي قد تنشأ بين الذين قد يبدون متشابهين سطحيا. وكنت شاهدا يوميا على حياة الضيق التي كان يعيشها جدي وجدتي، والخيبات التي عوضا عنها بمشاهدة التلفاز أو بشراء جهاز إلكتروني جديد أو سيارة... ثم برزت الحقيقة المقلقة ومفادها أن المتنمرين والغشاشين والمروجين لأنفسهم بدوا ناجحين كثيرا، فيما بدا أن من اعتبرتهم طيبين ولائقين هم الذين يعانون كثيرا..."، هذه التناقضات العميقة وهشاشة القِيم والواقع المرير كان أثره مفيدا فقد وجد "أوباما" ضالته وملاذه "في الكتب"، وكانت أمه دافعا آخر "وراء عشقي للقراءة". أول سنتين قضاهما في كلية "أوكسيدنتال"، نمى وعيه السياسي، وانشغل بأسئلتها التي ظلت تتراكم من مثل "ما الذي جعل بعض الحركات تنجح فيما فشل البعض الآخر؟ هل تجاهل أجزاء من قضية ما من قبل السياسة التقليدية علامة نجاح؟ أم علامة على اختطاف القضية؟ متى تكون التسوية مقبولة، ومتى تكون خيانة، وكيف يعرف المرء الفارق؟" ولاحظ في السياسيين "ابتساماتهم الخبيثة، وملاحظاتهم المبتذلة، والترويج الذاتي على التلفزيون بينما يراعون وراء الأبواب المغلقة مصالح الشركات وغيرها من المصالح المالية. وقررت أنهم لاعبون في لعبة مزورة ولم أرغب في المشاركة فيها."، وهذا ما جعل من شخصيته جادة، رصينة، واقعية وعملية. الحركة الاجتماعية ـ السياسية في شيكاغو التي تبلورت من أجل التغيير بانتخاب أول رئيس بلدية أسود "هارولد واشنطن"، ومشاركته في الحملة الانتخابية أفادت "أوباما كثيرا" فقد "تعرف على الطاقة الهائلة للحملة والتي ما كانت لتستمر من دون هيكل وتنظيم ومهارات في الحوكمة"، وتجنب فيما بعد "بعض أخطاء هارولد". وفي حملته الانتخابية الأولى للكونجرس، تعلم "دروسا مفيدة، احترام التفاصيل العملية للسياسة، والانتباه المطلوب إلى التفاصيل، والمعاناة اليومية التي قد تثبت الفارق بين الربح والخسارة...". من الملاحظات اللافتة التي عرض لها "باراك أوباما"، أن المجتمعات الواعية والناضجة التي تجاوزت النظر إلى الانتماءات العرقية والدينية كعائق، تولي اهتماما بتأييد وتقدير ودعم أصحاب الملكات والطموح الرفيع، خصوصا أولئك الذين يمتلكون دعامات النجاح، فالأصدقاء والمعارف والأقارب والجيران، وكل أصحاب الميول التقدمية، كانوا سندا ومحفزا لأوباما في تحقيق تطلعاته الرئاسية.