وليد الزبيدي:
يطل علينا الشاعر العراقي المغترب علي حبش بديوان شعر جديد، بعنوان لافت (شيء من هذا القتيل)، صدر مؤخرا عن دار نينوى للنشر في دمشق، وفي كل إصدار للشاعر تجد التصاقاته بالعراق، هذا الجرح الغائر في دواخل الكثيرين، هذا النزيف الذي تواصل لما يقرب من عقدين، فلا الشاعر انزوى لعوالمه المتداخلة في غربة قاسية ولا العراق اكتفى بذاك النزيف، وكلما نزف البلد ذرف الشاعر الدمع، كلاهما القتيل الشاعر والبلاد.
قصيدة طويلة كتبها حبش، تجد في مفرداتها وصورها الشعرية ذاك الخيط المتصل بين نهارات بغداد وطوفانات دجلة وتقلبات مويجات الفرات، يلهث الشاعر ويصمت ينفجر ويبكي.
يرسم لوحة حزينة لا تخلو من سوداوية يرسمها في مفتتح ديوانه، عندما يستشهد بكلمات للشاعر العالمي رامبو، الذي يقول:
كلما حلق بعيدا
ازداد الظلام من حوله
يقتنص حبش بهذه الالتقاطة صورة مجسمة لما يقرب من عقد ونصف من الغربة والتنقل بين المدن والدول، بعد أن اضطر مثل حال الملايين من العراقيين، مرغما على مغادرة بغداد حاملا في حقيبة ذاكرته الصور والآهات والكلمات، وحتى بعد أن حلَّق الشاعر على بعد آلاف الكيلومترات مستقرا بصحبة عائلته في الولايات المتحدة منذ العام 2010، فهو ما زال يتحسس حجم الظلام الدامس حوله وفي داخله وعلى مقربة من الآخرين.
يفتتح قصيدته الطويلة بـ
هذي أقدامي
تجتاز عامها الخمسين بعيدة عن بغداد
عن باصها الأحمر
عن هوائها الحار
بين بغداد وأقدامي يجلس المحيط.
علي حبش، الشاعر، الذي طالما كتب عن احتلال بلاده من قبل الغرباء، ووجَّه سهام قصائده صوب الذين نهشوا البلاد وخربوا القصائد ونهبوا كل شيء ـ كما في ديوانه ـ مدفع في جوار الباب ـ فهو يمتلك قدرة عالية على مخاطبة المتلقي بلغة شعرية خاصة جدا،
يقول:
"في التاسعِ من نيسان.. صفعَ الجنودُ مدينتي.. فتكسَّر زجاجُ المكتبة.. وازدحمت الجرائدُ بالجثث.. وامتلأتْ حياتي بالحمير".
ويتوقف قريبا من الموت ويتحدث إليه، كما في ديوانه ـ حياة أخرى ـ الذي صدر باللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة قبل عامين، ورغم بعد المسافة بين الشاعر في منفاه وعشه وهواه، فإنه يعيش هنا كما يتواجد هناك، يقول:
أصدقائي الذين أحبهم
سيأكلهم الوطنُ هناك
واحدًا واحدًا.
لا يزال الشاعر علي حبش يسترق النظر إلى بلده، ويرى التفاصيل بوضوح كبير، فعنده النبض روح المشهد، ولا حاجة عنده للمشاهدة المباشرة للأشياء، ما زال يتحسسها لكأنه جزء منها، وهو كذلك كما نلمس في قصائده. شاعر يكتب بلغة مختلفة، يمزج فيها اللوعة بالألم والسخرية بالمناجاة.
سيبقى علي حبش ينزف شعرا لفترة طويلة، تقول قصائده إن رصيده من النزيف لن ينضب في أفق منظور.