بقلم: ناصر بن عبدالله الريامي:
مؤلف كتاب “زنجبار : شخصيات وأحداث”

■ ■ في حدود الساعة (2:45) من فجر يومِ الأحد، 26 شعبان 1384هـ، الموافق الثاني عشر من يناير من عام 1964م، شقَّ سماء جزيرة القرنفل الهادئة، دوِيُّ الرّصاص .. اعتقد الناسُ للوهلةِ الأولى، أن عُمّالَ البلدية قائمون على قتلِ الكلاب الضّالة.. استمرت طلقات الرصاص، بل وقصُرت الفجوة الزمنية بين طلقةٍ وأُخرى.. بدأت الشكوك تلُفُّ الوجدان، وتتّجه نحو تصوّرٍ بحدوثِ اضطرابٍ من نوعٍ ما.. تأكَّدت الشكوك بسماع أصوات الرّجال تتعالى بما يفيد التعبئة العامة.
■ ■

كنا قد توقفنا في الجزء الثالث من هذا الموضوع الحيوي، عند اللّحظة التي قرر فيها الرئيس عبدالناصر إيفاد معالي المستشار محمد فايق إلى زنجبار، على رأس وفدٍ مصري، للتفاوض مع القادة الجدَد في زنجبار بشأن وقف عمليات الإبادةِ العرقية، وحماية الأرواح؛ وذلك، بعد أن أخذ الرئيس بمشورة فايق، بالتدخل الدبلوماسي، بدلًا من التدخل العسكري؛ وهو الأمر الذي اقتضى الاعتراف الفوري بالنظام الجديد.

يضيف فايق بأنه: وصل زنجبار في اليوم الثاني أو الثالث للإطاحة بالنظام، فوجد في استقباله في المطار عبد الرحمن بابو، وبعض الشخصيات الأخرى، التي كان قد تعرّف عليها في القاهرة؛ وهو الأمر الذي أكّدَ له أن “الثورة”، هي بالفعل اجتماعية، يقودها بعض الراديكاليين العرب؛ فأعرب لعبد الرحمن بابو عن القلق الشديد للرّئيس وحرصه على الوقف الفوري لحمّام الدّم العربي، وعدم امتداده إلى البر الإفريقي؛ فما كان من عبد الرحمن بابو إلاّ أن طمأنه بأن الأمور ستكون على ما يرام، وأن “الثورة” لم تهدف القضاء على العروبة كما يعتقد البعض؛ وكونه من أصلٍ عربي، لم ولن يسمح بذلك. أكد لي المستشار محمد فائق، في المقابلة التي أجريتها معه في بيته في القاهرة، في سنة 2008م، أنه اجتمع في النادي الإنجليزي، بمعظم القادة الجُدد، يذكر منهم: الرّئيس عبيد كارومي، وعبدالله قاسم هانجا، ومن يُلقبونه بـ”زعيم المقاتلين الأحرار”، جون أوكيلو؛ وبعض القيادات الأخرى، حيث نقل لهم رسالة عبدالناصر، وهي على النحو الآتي: “وقف حمام الدم العربي فورا، وعدم المساس برموز الحكومة المنكوبة، وعلى رأسهم علي بن محسن البرواني”، يقول فايق أنه كرّرها عليهم لثلاث مرات.طلب فايق مقابلة البرواني؛ إلا أن طلبه لم يحظَ بالموافقة، مكتفين بطمأنته بأن البرواني ورفاقه، رموز الحكومة السابقة، سيكونون في أمان، ولن يُمسّوا بسوءٍ؛ وهذا الذي حدث فعلًا؛ إلا أن بقاءهم في المعتقلات، امتدّ لعشرِ سنوات، حيث أفرج عنهم في سنة 1974م.

ومهما يكن من أمر، فإن المراقب لمجملِ الظروفِ والأحوال التي مرَّت بها القارة الإفريقية، في تلك الحقبة الزمنية؛ وتحديدًا، الظروف التي مرَّت بها مصر العربية الإفريقية، سيخرج بخُلاصةٍ مُؤداها أن عبد الناصر ما كان في وضعٍ يسمح له بالتّدخُّل. يُستخلص هذا فيما قاله فايق من أنه كانت هناك مُحاولة استعمارية خبيثة لإبعاد عرب إفريقيا، ومصر تحديدًا عن أيّ نوعٍ من التضامن أو الوحدة الإفريقية؛ ومن ذلك، برزت فكرة تقسيم القارة بواسطة الصحراء، ليصبح شمالها عربيّ وجنوبها إفريقي؛ وبفشل هذه المحاولة المرتكزة على مبدأ “فرِّق تَسُد” الاستعماري، برزت فكرة العُنصرية (العربية - الإفريقية) كمرتعٍ خصب لتشويه صورة العرب في القارة، وإثارة الكراهية ضدّهم. بلغت الفكرة مداها بعد قيام الوحدة بين مصر وسوريا في عام 1958م (فايق، عبدالناصر والثورة الأفريقية، ص 185).

وللتدليل على الحساسية المفرطة بين إفريقيا السّمراء والبيضاء، أوضح لي فايق أنه، حدث أن احتدم النقاش، في أحد اجتماعات منظمة الوحدة الإفريقية، بين مندوب السنغال ومندوب مصر، فتهجّم الأول على الثاني بالقول إنه يستغل المنظمة لفرض سياسة مصر على “الأفارقة”؛ ثم تساءل مُستنكرًا عمَّا إذا كانت مصر تنتمي حقيقةً إلى إفريقيا، أم أن انتماءها هو انتماءٌ عربي؟ (المرجع السابق، ص 188).

من هذا المنطلق، نرى أنه، ومع الأخذ في الاعتبار الوضع المتقدِّم، سنجد أن أيّ نوعٍ من التدخل من جانب عبدالناصر، مهما كان ضآلته، لنصرةِ حكومةٍ وصمت بكونها “عربية” – خلافًا للحقيقة -من السقوط، في وسط القارة السمراء، كان سينظر إليه بمنظورٍ عُنصريّ مُجرَّد (عربي – إفريقي)، المؤكِّد للمُخطَّط الاستعماري في هذا الشّأن؛ سيَّما إذا ما أخذنا في الاعتبار أيضًا أن المشاعر الإفريقية في دولِ السّاحل كانت قد أيَّدت حركة الإنقضاض التي تزعمها الرئيس نيريري وباركتها.

ويبدو أن عبد الناصر كان في موقفٍ حرج، ووجد نفسه مضّطرًا إلى وزن قضية زنجبار في ميزان المصالح السياسية؛ فوضع تأييد النفوذ العربي في زنجبار في كفّة؛ ووضع في الكفّةِ الأُخرى علاقة مصر بالشعوب الإفريقية السّمراء، فرجحت الأخيرة، وتلك هي لعبة السياسة.

هذا التحليل، ينبغي أن يُنظر إليه في ظلّ حدثٍ تاريخيٍّ مهم، وهو أن مصر كانت، في تلك الفترة، تعدّ العدّة لتأكيد دورها المؤثر، من أجل تحقيق الوحدة الإفريقية؛ وأنها عملت، لتحقيق ذلك، على استضافة أوّل اجتماعٍ لرؤساء منظّمة الوحدة الإفريقية، الذي انعقد في شهر يوليو 1964م (لقاء مع المستشار حلمي الشعراوي، سنة 2008). ينبغي ألاّ ننسى كذلك، بأن عبدالناصر كان يتطلّع إلى تحقيقِ دور كبير في مجال الوحدة الإفريقية، وأن من طموحاته كانت، إقامة جامعة إفريقية، على غرار الجامعة العربية. رأى عبدالناصر أن الصراع مع إسرائيل قد بلغ أشدّه، ووجد بالتالي أن ارتباط مصر بالدّول الإفريقية، في منظّمةٍ سياسيةٍ واحدة، من شأنه إعطاء مصر ميزة هامة في التغلّب على إسرائيل، يمكن استغلال هذه الميزة في مُقاومة التوسّع الإسرائيلي في القارة الإفريقية (فايق، 177 – 178).

وعلى الرّغم من أن التدخّل العسكري، من طرف الإدارة الناصرية لم يكن من البدائل المتاحة، من الناحيةِ العمليّاتية؛ يقول سليمان بن شحبل: فإن الفكرة التي تبلورت في صورة أن ما حدث في زنجبار إنما هو ثورة اجتماعية، يقودُها راديكاليون عرب، نُقلت إلى عبد الناصر كذلك من طرف الرئيس الجزائري، أحمد بن بلة، الذي اجتمع به في القاهرة، في يوم الانقضاض على زنجبار،ليُثنيه عن أيّ تدخّلٍ مُحتمل. يُذكر، أن وصول بن بلة إلى القاهرة، كان للمشاركة في مُؤتمر قمّة جامعة الدّول العربية، بتاريخ 13 يناير 1964م. (بن شحبل، ص 411).

هذه الفكرة، التي نراها غير سديدة، هي التي جعلت عبد الناصر يرفض الاستجابة لاستغاثة أحمد اللمكي، سفير سلطنة زنجبار في القاهرة، حسب البيان الذي أوردناه في الجزء الثالث من هذا الموضوع. يقول السفير اللمكي: في صباح اليوم التالي، ظهرت الصُحف المصرية بتصريحٍ منه، مفاده أن زنجبار لم تتعرّض لثورةٍ اجتماعية، كما يعتقد البعض، وإنما لعُدوان خارجيّ (بن شحبل، في لقائه مع اللمكي، في عام 1989م، ص 411).

ثانيًا: وقف انتشار الإسلام
ينبغي ونحن نتحدّث عن مسألة وقف انتشار الإسلام، كسببٍ ثانٍ من الأسباب التي يمكن أن يُعزى إليها تدخّل بريطانيا في إسقاط الحكومة، ينبغي أن نتذكّر الحقائق التالية: أن زنجبار كانت مركزًا للإشعاع الديني والحضاري في شرق إفريقيا؛ وكانت لها تأثيرٌ فكريّ قويّ على دول المنطقة؛ وأن الدّهاء الإنجليزي لم يكن ليغفل عن حقيقة أن الإسلام هو المرشَّح لقيادة العالم. لاشك أن وضعًا كهذا كان من الطبيعي أن يقلق المبشرين.

الدور الإسرائيلي
الحميميّة التي بدت في علاقة قادة الحزب الوطني الزنجباري بعبدالناصر، دفعت بإسرائيل إلى السّعي نحو تكوين علاقات مُضادة مع بعض قادة إفريقيا؛ وذلك تحسُّبًا لامتداد المشروع الناصري إلى شرقيّ القارة الإفريقية؛ سيّما إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الحزب الوطني، كان قد صُنّف لدى المراقبين بأنّه حزبٌ عربيّ. وعليه، فلقد نجحت وزيرة خارجية إسرائيل، جولدا مائير، في تكوين علاقة وطيدة مع الدكتور كوامي نكروما، الرّئيس الغاني؛ كما اغتنمت فرصةَ وجودها في مؤتمر “كل الشعوب الإفريقية” الأوّل، الذي انعقد في أكرا، عاصمة غانا، في ديسمبر من عام 1958م، وتعرّفت على كارومي، عن طريق الرئيس نيريري، الذي كان رئيسًا لحزب التانو (TANU) آنئذٍ.

تمويل المعارضة:
الثابت يُشير إلى نجاح جولدا مائير في حملتها في زنجبار، وذلك من خلال استمالة حزب المعارضة، الأفروشيرازي، الذي أخذت تُزوّده بالكثير من المساعدات المالية والعينيّة. فلقد حصل هذا الحزب على مجموعة من سيارات لاندروفر ذات دفعٍ رباعيّ، وكذا مبالغ مالية، أثناء الحملات الانتخابية؛ حيث كانت المساعدات، في بادئ الأمر، تُرسل عن طريق حزب التانو (TANU)- الذي حكم تنجانيقا فيما بعد؛ وفي وقتٍ لاحق، وجدت طريقًا مباشرًا، عن طريق أمين خزينة حزب المعارضة، وهو تاجر هندي يدعى رافال. ولقد أكّد مصدرٌ بنكيّ، أن حساب هذا الحزب، كان يتلقى دعمًا شهريًّا من إسرائيل، يُقدّر بثمانية عشر ألف شلنج (بن شحبل، ص 406).

الذي كان يقوم بدور التنسيق بين الجهتين هو عميل “تاجر” إسرائيلي، يدعى ميشا فينسيلبير (Misha Feinsilber). عُرف هذا العميل من قبل المسؤولين بأنه السفير غير المعلن لإسرائيل، حيث كان على أرض زنجبار بذريعة العمل في مجال تصدير السمك واستغل هذا الغطاء في القيام بدورِ الوساطة في توصيل المساعدات إلى حزب المعارضة.

ومن منطلق الحميميّة التي سادت، على الأقل، من طرف الحزب الوطني تجاه عبد الناصر وأيديولوجياته؛ تعاطفت زنجبار كثيرًا مع القضيّة الفلسطينية؛ وهو الأمر الذي دفع برئيس الوزراء إلى الإعلان صراحة عن مُعارضة حكومته لإسرائيل، وذلك في الخطاب الذي ألقاه في يوم الاستقلال، الموافق 10 ديسمبر 1963م. واضحٌ من التصريح، أن رئيس الوزراء لم يكن قد حَنكتهُ التجارب بعد؛ وإلاّ، لما صرّح بأمرٍ يُدعّم العقيدة المترسّخة حول كونهم حكومة عربية؛ سيّما وأن ذلك جاء في محفلٍ عام. كما اتّجه رأيّ علي محسن البرواني – حينما كان وزيرًا للداخلية، قبل الاستقلال - إلى ضرورة إصدار قرار إداريّ بإبعاد العميل ميشا من زنجبار؛ إلاّ أن مُفوّض الشرطة بايلز (Biles) ثناه عن هذا الاتّجاه، بعد أن أوضح له أنه لا ينبغي عليهم، كدولةِ قانون، اتّخاذ قرارات كهذه، دونما اللجوء إلى القضاء.

ومع اقتراب موعد الاستقلال، تعاظمت المساندة الإسرائيلية لحزب المعارضة بشكلٍّ حادٍ وملحوظ؛ كما نجحت إسرائيل في شراء ذمّة عبد الله قاسم هانجا، الذي أصبح نائبًا لرئيس زنجبار، في حكومة الانقضاض على الشرعية؛ وأغلب الظّن أنها نجحت في شراء ذمة عبد الرحمن بابو، رئيس حزب الأمة، كذلك. فلقد شوهدا لمراتٍ مُتكرّرة، يتردّدان على مكتب ميشا اليهودي وكذا السفارة الإسرائيلية في دار السلام.

التخطيط للإطاحة بالنظام:
تشير إحدى وثائق الاستخبارات الأمريكية، أن المذكورين، ومعهما آخرين من الشباب الإفريقي المتعلّم، خطّطوا، بمعزلٍ عن مجموعة جون أُكيلّو، ودون علمهم، للإطاحةِ بالحكومة الشرعية. هناك دلائل تشير إلى أن السفارة الإسرائيلية، في دار السّلام، أرسلت إلى مجموعة (هانجا – بابو) شحنةَ سلاح؛ إلاّ أن استخدامها في الإطاحة بالحكومة غير مُؤكّد؛ إذ من المرجّح أن تكون قد وصلت زنجبار بعد عمليّة جون أُكيلّو بوقتٍ قصير (بن شحبل، 406 – 407)، حيث كان من المقرّر أن يكون موعد تنفيذ المجموعة الثانية لعمليّتهم في عطلة نهاية الأسبوع التالية، أي في اليومين 18- 19 يناير (أنتوني كلايتون، 69 – 70).
جديرٌ بالذّكر، أن عبد الرّحمن، الملقّب بـ”بابو” كان قد بعث مجموعةً من الشباب إلى كوبا لتلقي تدريباتٍ عسكريةٍ خاصة في العمليّات ذات الصّلة بالإطاحة بالحكومات؛ وكان ذلك بالتنسيق مع السّفير الكوبي في دار السّلام، بابلو ريبالتا. هذه المجموعة عادت إلى زنجبار عن طريق دار السلام، قبل الانقضاض على النظام ببضعة أيام. من الأهمية بمكان أن نعلم أن عودة هؤلاء الشباب المشحونين بفكر بابو الشيوعي، كان بواسطة قارب تابع لشركة منتجات المحيط، التّابع للتاجر الإسرائيلي ميشا (كلايتون، 70 – 71).

يذكر، أن إسرائيل كان يهمّها، في تلك الحقبة من الزمان، أن تتوغّل داخل القارة الإفريقية، لتكتسب ثقة أُممها، ثمّ تأييدها في موقفها ضد العرب. فتبنّت لذلك سياسة تقديم مُختلف المساعدات لشعوب إفريقيا، من تدريب وتعليم وخدمات أُخرى. يقول كلايتون: إنه من غير المستبعد أن تكون الحكومة الإسرائيلية قد استخدمت هذا التاجر الإسرائيلي في تحقيق أهدافها في زنجبار. ويضيف قائلاً: إن هذا التاجر وبصفته إسرائيلي الجنسية، وجد نفسه يكنّ الكراهية لحكومة زنجبار، المصنفة خطأً بكونها “عربية” – سيّما وأن رئيس الوزراء، محمد شامتي كان قد أعلن عن موقفه في خطاب الاستقلال إزاء القضية العربية الإسرائيلية – فوجد التاجر أن مصلحة تجارته تكمن في تقديم ما يلزم من مُساعدة لإقصاء تلك الحكومة من الوجود؛ إذ أن استمرارها كان حتمًا سيؤدّي إلى وضع حدٍّ لنشاطه التّجاري (كلايتون، 71).

قيادات إسرائيلية تزور زنجبار:
إن ما يُؤكّد الاهتمام الإسرائيلي بالقارة الإفريقية، يكمُن في الزيارةِ الخاطفة التي أجراها لزنجبار موشى ديّان - الذي أصبح لاحقًا وزيرًا للدفاع الإسرائيلي – في الفترةِ السّابقة لسقوط الحكومة الشرعية؛ ثمّ الزيارة المماثلة التي أجراها ديفيد كيمحي، وهو النّائب الثاني لرئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلي،”الموساد”، والمسئول عن الشئون الأفريقية، فور سقوط زنجبار؛ حيث انتقل إلى المقر الذي اتّخذه القائد المزعوم للإنقضاض مقرًّا له، وتقابلا هناك، دون أن يُعرف الحوار الذي دار بينهما تحديدًا (لقاء أجريته مع الدكتور حارث الغساني، نقلًا عن لقاءات أجراها الأخير مع بعض القيادات الإسرائيلية، التي آثر عدم الإفصاح عنها). الثابت في أدبيّات جهاز الموساد وقادتها، يشيرُ إلى أن ديفيد كيمحي، هو النّجم اللامع في الجهاز، وأنه ترأس كل العمليات السرّية التي تحقّقت في أفريقيا.

محاولتهم لضم أمريكا معهم:
يُشار أخيرًا إلى أن ميشا، صرّح في جريدة “واشنطون ستار” الذّائعة الصّيت، في عددها الصادر بتاريخ 4 مايو 1964، أنّه سبق أن نصح القنصل الأمريكي، قبل انتخابات يوليو 1963م بفترةٍ وجيزة، نصحه بأهميّة تقديم مُساندة مالية لحزب المعارضة، الأفروشيرازي، ليتمكن بمقتضاها من الوقوف أمام المساندة المصرية القوية للعرب؛ وذلك، بعد أن أوضح له أن الحكومة العربية ونظام السّلطنة لن يستمرّا طويلاً، وأنه بات من المهم عمل ما يلزم لإظهار الولاء لهذا الحزب؛ إلا أن القنصل رفض حتى رفع المقترح إلى واشنطن، حسبما جاء في تصريح ميشا. وفي هذا الصّدد، يؤكّد بيترسون، الذي كان مُساعدًا للقنصل الأمريكي آنئذٍ، يؤكد في كتابه: حتى لو حدث أن رفع القنصل المقترح إلى واشنطن، فمن المستبعد أن تستحسن الخارجية الأمريكية فكرة التقرّب نحو المعارضة وإغضاب حكومة الحكم الذاتي التي كانت قد أوشكت على استلام الحكومة بعد الاستقلال المرتقب (بيترسون، ثورة في زنجبار، ص 30).

ومن هذا المنطلق، ينفي مُساعد القنصل، بيترسون، علم القنصلية الأمريكية بوجودِ أيّ مُخطّط للإطاحة بالحكومة الشرعية، أو بوجود أيّ تهديدٍ للأمن في تلك الليلة من طرف المعارضة، وفق الكيفية التي أوردها أنتوني كلايتون في كتابه (ص 29)؛ وأن هذا تُؤكّده جُلّ تقارير القنصلية التي صدرت في الفترة السابقة للإطاحة بالنظام، والتي تمحورت معظمها حول حزب الأمة وراديكالية رئيسه، عبدالرحمن محمد بابو؛ وكذا، أيديولوجيّته الخطيرة على أمن البلاد وعن علاقته المريبة بالشيوعية، وبالصين تحديدًا، وفق الثابت في آخر تقرير صدر عن القنصلية، في اليوم السابق للاطاحة بالحكومة الشرعية. أنظر (بيترسون، ص 31).
الاستسلام الرسمي

للحكومةِ الشرعية
في لحظةٍ من اللحظاتِ المبكرة للانقضاض على النظام؛ وتحديدًا، فور أن شعرت الحكومة بفقدها لزمامِ السَّيطرة على الموقف الأمني، فكَّرَت الحكومة في مُغادرة جزيرة زنجبار العاصمة والاتجاه نحو الجزيرة الخضراء (بيمبا) – الشديدة التأييد للائتلاف الحاكم - لحمايةِ نفسها من الانهيار؛ إلا أن هذه الفِكرة سُرعان ما أن تبدَّدت، ذلك لأن هَم الحكومة في ذلك الوقت العصيب، لم ينصرف إلى حماية شرعيتها ومقاومة الانهيار، بقدرِ ما انصرفَ إلى حمايةِ الأرواحِ البريئة من الإبادةِ الوحشية الجماعية.

أمام هذا الموقف العصيب، لم تجد الحكومة الشرعية المنتخبة مَناصًا من الاستسلام. ففي تمام الخامسة من مساء يوم الأحد الموافق 12 يناير 1964م، تقدم كلٌّ من محمد حمد شامتي، رئيس الوزراء (من أصل شيرازي)؛ وعلي بن محسن البرواني، وزير الخارجية؛ وجمعة علاي الأبروي، وزير المالية؛ تقدَّموا إلى حيث مقر الحزب الأفروشيرازي المعارض، وذلك لغايات الاستسلام بشكلٍ رسمي. يضيف على هذا وزير التعليم والرعاية الاجتماعية، آنئذٍ، مولد مشانجاما (قُمري الأصل): إنهم كانوا يأملون أن الاستسلام الرسمي للحكومة سيهدئ من حالةِ الفوضى والفَلَتان الأمني التي سادت؛ وسيوقف بالتالي المذابح الجماعية والنهب، التي كان يتعرَّضُ لها الأبرياء من الشعب؛ إلّا أن ذلك لم يحدث (راجع كتابه، ص 11).
يُذكر أنه، قبل لحظات الاستسلام، تقدم كل من رئيس الوزراء، ووزير الخارجية إلى مكتب القنصل البريطاني، حيث سجَّل البرواني، وزير الخارجية، رسالة استسلامٍ إذاعية إلى الشعب، قال فيها:
“دعونا نتقبل الموقف على ما هو عليه الآن. فلم تعُدْ للمقاومة أية فائدة ولا معنى. دعونا نتقبل الموقف على اعتبارهِ إرادة اللهِ عز وجل، ولنرفع معًا أكُفَّ الضراعة، لعودةِ الأمنِ والأمان إلى بلادنا”.

كان من المقرّر أن يُسجّل رئيس الوزراء، محمّد شامتي رسالة الاستسلام الإذاعية، إلاّ أن وضعه النفسي لم يسمح له ذلك، وأسند الأمر إلى البرواني، وزير خارجيّته؛ مُكتفيًا هو بالتوقيع على الوثيقة الرّسمية لاستقالة حكومته (كلايتون، 83).

عودًا إلى لحظات الاستسلام العصيبة، يقول البرواني: إنه عندما شرع في دخول مقر قيادة حزب المعارضة – الذي كانت تفوحُ منه رائحة الحشيش والخمور المصنّعة محليًّا - بصحبة الرجلين آنفي البيان، تفاجأ بِضربةٍ شديدةٍ على مُؤخرةِ رأسهِ، أطاحت به أرضًا، ولم يدرِ بنفسهِ إلا وقد أُدخل حيث يوجد جون أُكيلّو، بينما هذا الأخير يُشهر مسدسًا على وجههِ، ويسأله عما إذا كان يريده أن يقتله، فرد عليه البرواني: افعل ما تراه أنت مناسبًا (أوكيلو، ص 152). ويُضيف البرواني، بأن ذلك كان في حضور عبيد كارومي، رئيس حزب المعارضة؛ وعبد الرحمن بابو، رئيس حزب الأمة؛ والمدعو ميشا “السفير غير المعلن لإسرائيل في زنجبار”، الذي قدّم له سيجارة، فردّ عليه بأنه لا يُدخّن.يقول البرواني: إن ما يزيدُ الموقف أسىً وحسرة، أن أيًّا من هؤلاء الرّجال، باستثناء عبد الرّحمن بابو، لم يكونوا من مواليد زنجبار؛ بل وليس لهم أية جذورٍ بالأرض.

وبهذا تم اعتقال أعلى ثلاثة عناصر في الحكومة الائتلافية الشرعية، وأُودعوا السجن بلا محاكمة لمدّة عشرِ سنوات وخمسة أشهر.
سنستعرض في حلقة الغد أحداث خروج جلالة السلطان جمشيد بن عبدالله آل سعيد من زنجبار، والتفاصيل المتصلة بذلك.
تابعونا غدًا ....