بقلم: ناصر بن عبدالله الريامي:
مؤلف كتاب “زنجبار : شخصيات وأحداث”

■ ■ في حدود الساعة (2:45) من فجر يومِ الأحد، 26 شعبان 1384هـ، الموافق الثاني عشر من يناير من عام 1964م، شقَّ سماء جزيرة القرنفل الهادئة، دوِيُّ الرّصاص .. اعتقد الناسُ للوهلةِ الأولى، أن عُمّالَ البلدية قائمون على قتلِ الكلاب الضّالة.. استمرت طلقات الرصاص، بل وقصُرت الفجوة الزمنية بين طلقةٍ وأُخرى.. بدأت الشكوك تلُفُّ الوجدان، وتتّجه نحو تصوّرٍ بحدوثِ اضطرابٍ من نوعٍ ما.. تأكَّدت الشكوك بسماع أصوات الرّجال تتعالى بما يفيد التعبئة العامة.
■ ■

في حُدود الحادية عشر من صباح أول أيام سقوط نظام سلطنة زنجبار، الذي صادف الأحد 12 يناير 1964م، خرج جلالة السّلطان جمشيد بن عبدالله آل سعيد من قصرِه، متجهًا إلى ميناء زنجبار البحري، الذي يبعد مسافة خمسمائة متر تقريبًا، ومعه أسرته وحاشيته، وركب سفينة (السلامة)، دون أن يعلم وجهته تحديدًا، بقدرِ ما علم أن عليه الخروج من البلد فحسب؛ لينأى، ليس بنفسه ولا بأسرته من مذبحةٍ مُحققة وكفى؛ بل لينأى بالنظام من السقوط والانهيار أيضًا، وفق مشورة رئيس الوزراء، التي نقلت إليه عبر أحد المخلصين للنظام وللسّلطان؛ في محاولةٍ لإقناع جلالته بترك القصر، والخروج من البلد؛ دون البقاء، والقتال حتى الشهادة، كما أراد السّلطان الشاب الذي عُرف واشتهر بالشجاعة والإقدام، كما وصفه الشيخ عيسى الإسماعيلي في كتابه.

تشرفت بتاريخ 6 أبريل 2006م، بمقابلة جلالة السّلطان جمشيد، في بيته في انجلترا. وعلى الرغم من أنها لم تكن فعليًا المقابلة الأولى؛ إلّا أنها كانت كذلك، من ناحية تخصيصها لنقل الأحداث منه مباشرةً، وفقما عايشها، لحظةً بلحظة؛ وهو لعمري شرفٌ حصريّ، خصّه جلالته لي، دون غيري، حتى لحظة تسطير هذا التقرير. فالمعروف عن جلالته، تحفظه الشديد عن التحدث عما حدث، ليس مع الإعلاميين فحسب؛ وإنما، مع المؤرخين في الوقت عينه.

بالجلوس مع جلالته، وبدء الحديث معه حول مسألةِ خروجه من زنجبار، وكيف كانت؛ تلمست كم كان الأمرُ عسيرًا عليه، وشعرت بقشعريرة تسري في عروقي .. كيف لا، والأمر عسيرٌ على كلّ ذي حسٍ وإدراك أن يتخيّلَ مليك وقد أجبرته ظروفٌ مريرة على تركِ عرشه، وعرش آبائه وأجداده، من قبل، ظلمًا وعدوانًا. كَمْ هو مُوحشٌ حقًا أن يُرى ذلك المليك مجبورًا، ليس على تركِ عرشهِ وكفى، وإنما على تركِ وطنه أيضًا، بل والخروج منه طريدًا مُنكسرًا؛ باحثًا، وهو في عرضِ البحر، عن ملاذٍ يأويه ويقبله بصفةٍ ما كانت لتخطر على باله يومًا، وهي صفة اللاجئ السياسي. هذا هو عينُ ما حدث للسُّلطانِ الشاب صاحب الثلاثة والثلاثين عامًا، والذي لم تتجاوز فترة جلوسه على عرش زنجبار، كدولةٍ مُستقلة، واحدًا وثلاثين يومًا فقط؛ بعد أن كان قد جلس على العرش، تحت الحماية البريطانية، فور وفاة والده، السلطان عبدالله بن خليفة بن حارب، بدءًا من 1 يوليو 1963م. إنّه ذلك السّلطان، الذي طالما رفض حياة القصورِ والعظمةِ والمجد، مُؤثرًا عليها البساطة والاختلاط بعامة الجمهور؛ وهو الأمر الذي دفعه مِرارًا إلى رفض أيلولة العرش إليه، وتقديم أخيه الأصغر، سمو الأمير السيد محمد (كما كان يُلقب آنئذٍ)؛ إلاّ أن مجلس الوزراء نصحه بألا يخالف العُرف السّلطاني في مسألة ولاية العرش.

القرار التاريخي الصَّعب
يقول جلالة السّلطان جمشيد: إن الأمر الذي أزعجه كثيرًا، وجعله يشعر بالمرارة، أنه لم يكن قد تلقّى أيّ إبلاغٍ عن أعمال الشغب المرتقبة، ممّن يُتوقّع منهم ذلك – مجلس الأمن القومي أو رئيس الوزراء، أو حتى وزير خارجيّته – في الوقت الذي بادره بذلك أحدُ كبار التجار الهنود، ممّن يدينُ له بالولاء، يُدعى (كيرمالي)، في اليوم السّابق للعدوان، حيثُ طلب الالتقاء به لأمرٍ غاية في الأهمية. يذكر أن مجلس الأمن القومي كان قد تشكل على أعقاب أعمال الشغب التي وقعت في عام 1961م.

يذكر أيضًا، أن السّلطان الشّاب، الذي اعتاد على التجوّل بسيارته وقت الأصيل من كلّ يوم، مرَّ على التاجر أعلاه في محلّه، بعد أن فرغ من جولته؛ فالتمس منه الأخير عدم الخروج للقنص في صباح اليوم التالي، الأحد، كما هي عادته الأسبوعية، مُؤكّدًا له أنه سمع همهمة كلامية بين الناس بأن حزب المعارضة سيفجّر اضطرابًا أمنيًا شديد الحرج .يقول السلطان: إنه عاد من فورِه إلى القصر والوقت يدنو من أذان المغرب، حيث حاول عبثًا مُخابرة رئيس الوزراء عبر الهاتف لمرّاتٍ مُتكرّرة. أخذ القلق يتسلّل إلى نفسه رويدًا رويدًا، لم تُبدّد حدّته سوى المحادثة الهاتفية التي أجراها مع البرواني، وزير خارجيّته، الذي طمأنه بتأكيد علمهم بالشائعات؛ وبأن رئيس الوزراء أصدر توجيهاته إلى مُفوّض الشّرطة لاتّخاذ ما يلزم من تدابيرٍ أمنية، لقمعِ أيّ تمرّدٍ مُحتمل، حفظًا للأمن والنّظام العام.

ورغم هذه الطّمأنة، فإن السّلطان قضى ليلته في قلقٍ شديد، حيث لم يجد النوم أو حتى النُعاس طريقًا إلى مآقيه. وفي حدود الثانية والنصف من بعد انتصاف الليل، اخترق أزيز الرّصاص سماء المدينةِ الهادئة؛ فأخذ السّلطان يُجهّزَ ما لديه من سلاح، مسدسًا وبندقية، وجهز ذخيرته، لمواجهة الأسوأ.

هذا، ويستمر جلالة السلطان جمشيد في عرضه لتلك اللّحظات الأليمة، وعلامات الحُزن والأسى تعلوان وجهه وتملآن عينيه، فيقول: بأن مُرافقه الشخصي (AD. Camp) استأذنه عقبَ صلاةِ الفجر، للوصول إلى مركز شرطة ماليندي لتفقُّد الأوضاع هناك، على أن يعود إليه دونما تأخير، إلاّ أنه لم يعُد. يضيف السّلطان على ذلك فيقول، وقلبه يملأه الحزن، وتقطر منه المرارة: إن المرافق سأله، قبل خروجه من القصر، ما إذا كان لديه سلاح، فأخرج السلطان مُسدّسه، بنوعٍ من الشّدة، من بين طيّات ملابسه، قائلًا له: بالتأكيد لديّ سلاح، هاهو هاهو ذا. قال السّلطان: إنه توقّع الخيانة من المرافق، مُشيرًا أنه شعر، في تلك الأثناء، بأنه إن لم يبرز سلاحه بتلك الكيفية، لكان المرافق قد أجهز عليه قبل خروجه من القصر، رميًا بالرّصاص.

عدم عودة مرافق السّلطان إلى القصر، لم يكن بالأمر الغريب؛ إذ عُرف عنه ميلهُ إلى حزب الأمة، وأيديولوجيته الشيوعية؛ لأسبابٍ كثيرة، لسنا بصددِ الإشارة إليها في هذا الحيز المحدود. إن ما يهمّنا في هذا السّياق، يكمن في الإشارة إلى ما قد يلحظه المراقب، بمفردات أمنِ اليوم وأبجديّاته، وبمنظورِ المكان المغاير للمكان، أن تصرُّفًا كهذا يُعدُّ وبحق، ضربًا من ضروب الإخلال الجسيم بأمن السّلطان، بل وكبيرة من الكبائر الأمنية التي لا تُغتفر؛ إذ كيف يتأتى الإبقاء على شخصٍ مشكوكٍ في ولائِه للنّظام الحاكم، داخل أروِقةِ القصر؛ إلاّ أن العالمين ببساطةِ شعب زنجبار ووضاعة تفكيره، وميله المفرط إلى التّسامح؛ يُدرك، أن الأمر ما كان ليُحمَل على محمَل توقّع الغدرِ والخيانة.

يسترسل السّلطان قائلًا: أنه، في حدود السادسة صباحًا، أو بعد ذلك بقليل، وصل إليه في القصر مندوبٌ من رئيس الوزراء، يُدعى الحاج حسين، وأبلغه رسالة مجلس الوزراء بضرورة ترك القصر، حمايةً له؛ إلاّ أن جلالته امتنع عن الخروج، قائلًا، وبشجاعته المعهودة: إنه لن يخرج ويترك رعيَّته يلتهمهم الغوغائيّة مُنفردين؛ وإذا لم يكن من الموت بُدّ فالأكرم له أن يقاتل حتى تكتب له الشهادة بين ظهرانيهم. حاول الحاج حُسين جاهِدًا إقناع السُّلطان بوجاهة رأي الخروج من القصر، إلاَّ أنه استعصم. يذكر أن هذا الاعتصام والإصرار على القتال، ورد في تقرير سميثيمان، الذي عمل حتى قبيل سقوط زنجبار في مكتب رئيس الوزراء؛ كما ورد ذلك أيضًا في كتاب الشيخ عيسى الإسماعيلي، ص ص 98 – 99).

يقول السّلطان: في هذا السياق، وبعد أن غادر الحاج حسين خائبًا؛ ورده بعد فترةٍ، لم يحددها، السفير هلال بن محمد البرواني،الذي تمكَّن فعلًا من إقناعه بالخروج، بعد أن أوضح له أن الخروج ليس لمصلحته فحسب، وإنما لمصلحةِ النِّظام والبلد والشعب في آنٍ واحد. وهذا هو عين ما أكده لي وزير خارجية الحكومة المنكوبة، خلال لقائي معه في سنة 2004م. يقول السّلطان: ورده، بعد ذلك، اتصال هاتفي من المفوّض السّامي البريطاني، تيموثي كروسوايت، وأبلغه باقتراب الغوغائيين من القصر، وأن الأمر بات يحتّم عليه ترك القصر، بل والرحيل من البلد. أبلغه كذلك، بأنه سينسّقُ مع مُفوّض الشرطة لتأمين سلامة خروجه. يُذكرأن السفير هلال البرواني، كان قد صدر بشأنه مرسوم سلطاني بتعيينه سفيرًا لدى الأمم المتحدة؛ وقدم أوراق اعتماده فعلًا لأمين عام الأمم المتحدة في نيويورك، قبل الأحداث بأقل من ثلاثة أسابيع؛ ولولا القدر الذي أعاده إلى زنجبار، لكان قد حصل على اللجوء السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية.

في تمام الحادية عشرَة صباحًا، تلقى جلالة السّلطان جمشيد اتصالًا آخر من مفوّض الشرطة، جاك سوليفان، مُستأذنًا جلالته بأن يرسل إليه ضابطًا على رأس قوّة شُرطيةٍ مُسلّحة، لإخراجِه من القصر إلى الميناء البحري؛ وأوضح له بأن القوة ستصل القصر في غضون عشرِ دقائق. وهذا هو عين ما ورد في تقرير مفوض الشرطة، المحفوظ في الأرشيف البريطاني.

تنفيذًا لذلك، وصلت القوّة المذكورة القصر، وعملت بالفعل على تأمين وصول جلالته، وأفراد أسرته إلى الميناء البحري. أوضح لي السّلطان: أنه خرج من القصر مُتهيئًا لأسوأ الاحتمالات؛ فظهر للعامة حاملًا بندقيةً بيمينه، ومُخبّئًا بين طيّات ملابسه مُسدّسًا؛ وأبت نفسه أن يخرج في سيارة الشرطة؛ مُؤثرًا، بدلًا من ذلك، الخروج مرفوع الهامّة، قائدًا سيارته بنفسه، وكأنّ الأوضاع تسيرُ وفق طبيعتها، حيث ركبَت معه زوجته وأولاده؛ بينما ركب بقيّة أفراد الأسرة، وكذا الحاشية في سيارات النّجدة التي أحاطت بسيارة السُلطان. هذه القوة الشرطية، لم يكن في مقدورها العودة إلى مركز شرطة ماليندي لتعزيز المقاومة؛ إذ أن الغوغائيين، كانوا قد اقتربوا إليهم؛ وهو الأمر الذي دفعهم إلى ركوبِ السفينة بصحبة السّلطان.

ترك جلالة السّلطان أفراد أسرته في السفينة، وعاد مُنفرِدًا إلى قصرِه – لسببٍ لم يذكره - دونما حراسةٍ أمنية. ولا يُعرف حقيقةً سبب هذا الانفراد؛ ويُرجَّح أن تكون الحراسة نصحته بألاّ يفعل ذلك، إلاّ أنه أصرَّ على العودة. وهذا هو عين ما أكده لي السيد سعود بن أحمد بن حماد السّمار، في اللقاء الذي أجريته معه في بيته، في سنة 2006م، حيث أكد لي أنه كان يراقب الموقف من شرفة بيته، في مربع القصور السلطانية؛ ولاحظ السلطان يعود إلى القصر منفردًا، دون حراسةٍ أمنية يشيرُ السّلطان إلى أن أفراد حراسة القصر، أدوا له التحية العسكرية، حسب العادة التي درجت عليها أُصول المراسم السّلطانية، عند دخوله القصر؛ إلاّ أن الأمر لم يكن كذلك عند الخروج، حيث لم يُكلّفوا أنفسهم حتى مجرد القيام من مقاعدهم؛ وهو الأمر الذي توجّس منه السّلطان خيفةً، وتوقَّع منهم الخيانة، حال العودة إلى القصر ثانيةً. هذا المظهر، يشير إلى حقيقةٍ مُؤدّاها: كيف كان التحول، ليس على النّظام فحسب، وإنّما على السّلطان أيضًا سريعًا وواضحًا، حتى ممَّن كان يُتوقّع منهم بذل التضحيات، فداءً لحياتِه؛ والسبب يعود إلى دأب قيادة الشرطة على تعيين ضباط الصف، وكذا الأفراد من البر الأفريقي، الموالين لحزب المعارضة، الأفروشيرازي، وفق البيان الذي أوردته في الجزء الثالث من هذا التقرير.

هكذا، حانت ساعةُ الرّحيل .. لحظاتٌ دراميةٌ لنهايةِ عهد .. سُلطانٌ يُغادرُ قصرَه طريدًا مُنكسرا .. نظراتٌ تائهةٌ مُرتبكة، ملؤها علامات الاستفهام، مُلتمسةً السبيل المنقِذ للموقف .. خيانةٌ مُتوقّعة من حيث لا يدري.. عُيونٌ محمرّةٌ من شدّةِ الحنَق على ما هو آيلٌ لشعبِه، والحسرةِ على فقدان عرشٍ تليد .. سلطانٌ يعتلي ظهر سفينةٍ مُحطّم الفؤاد ساهمًا واجمًا وقد غامت الدُّنيا في وجهه، فيوجّه منها نظرةَ الوداع إلى القصر الذي بناه جدّه الأكبر، السيّد سعيد بن سلطان.. وإلى المدينة التي ولد وكبر على تُرابها، هو ووالده من قبل .. يتولّد لديه عندئذٍ إحساسٌ بأنها آخر عهد له بهما؛ ويبدو أن الحال كذلك؛ حيث لم يعد إلى زنجبار، حتى اللحظة.

وعودًا إلى لحظات الخروج، يُذكر بأن السفينة السّلطانية “السيد خليفة”كانت قد أبحرت، بوالدة السلطان وبعضٍ من أفراد أسرته، قبل الغزو ببضعة أيام إلى مينائي تانجا وممباسا، لقضاء فترة نقاهة ما قبل حلول شهر رمضان المبارك. وعليه، فلقد أُرسلت برقية عاجلة إلى قائد السفينة بالعودة الفورية إلى ميناء زنجبار لنقل السّلطان وإلى حين وصول السفينة، نُقل السّلطان إلى سفينة “السلامة” – في حدود الحادية عشر صباحًا - التي كانت قد أُبعدت عن الرّصيف، إلى ما وراء مرمى بنادق الغُزاة والغوغائيين ومما يُذكر، فإن سميثيمان، هو الذي تولى كلّ الترتيبات الخاصة بتجهيز السفينة المقلة للسلطان. فيقول سميثيمان في هذا الصدد: إنه كان قد تواصل هاتفيًا مع رئيس الوزراء، محمد شامتي، واتفق معه على أن يُغادر مجلس الوزراء برفقة السلطان في السفينة، إلا أنه تفاجأ عند وصوله السفينة بعدم رؤية أحدٍ من الوزراء بصحبة السلطان. أضاف سميثيمان قائلاً: إن عدم مرافقة الوزراء للسلطان في هذه الرحلة، أجهض أي احتمالية لإعادة ترتيب وضع الحكومة الشرعية.راجع تقرير سميثيمان، ص 15، الأرشيف البريطاني. وصلت سفينة “السيد خليفة” قبالة ميناء زنجبار، في زمنٍ قياسيّ، حيث بلغت مقصدها من ميناء تانجا، في أربع ساعات تقريبًا؛ أيّ أنها وصلت ميناء زنجبار في حدود الرّابعة عصرًا، حيث وقفت على مقربة من “السلامة”، وعندها تم نقل السلطان ومن معه إلى “السيّد خليفة”.

إبحار إلى وجهةٍ مجهولة:
هنا تبدأ رحلة السّلطان إلى المجهول .. سفينةٌ تبحرُ في لحظاتٍ تاريخيةٍ عصيبة، دون أن تعلم وجهتها .. أخذ القبطان يلفّ بها حول جزيرة زنجبار لثلاثِ مرّات، لا لشيءٍ سوى لعدم تلقّيه التعليمات حول الوجهة التي ينبغي سلوكها. أحمد بن سيف الخروصي، الذي كان في حكم السكرتير الخاص للسّلطان، في رحلة الخروج هذه، استدعى أهل الرّأي من الرّجال لعقد اجتماعٍ طارئ، داخل السفينة لتحديد الوجهة. تضاربت الآراء؛ حيث ذهب رأيٌ ضعيف إلى الاتجاه نحو الصُّومال؛ بينما ذهب رأيٌ أقوى منه قليلاً إلى الاتّجاه إلى مصر؛ واتّجه رّأي ثالث - والذي رجّحه المجتمعون جميعًا، باستثناء جلالة السلطان – إلى جزيرة بيمبا، المعروفة بـ(الجزيرة الخضراء)، للأسباب التالية:

1. تُشكل جزيرة بيمبا النّصف الآخر المكمِّل للإقليم الأرضي لسلطنة زنجبار. وعليه، فإن نزول السّلطان عندها، يُكسبه القوة من خلال قدرته على ممارسة صلاحيّاته الدستورية؛ من تشكيل حكومة جديدة، خلفًا لتلك المستقيلة في العاصمة زنجبار؛ وما إلى ذلك من صلاحيّات؛ سيّما وأن الغالبية العُظمى من سكّان بيمبا، هم من مؤيّدي حزب الشعب، الدّاخل في الائتلاف الحاكم. وعليه، فإن وجود السّلطان على أرض هذه الجزيرة، ما كان ليُشكّل أية خطورة على حياته.

2. إن وجودهم على الإقليم الزنجباري، كان ليُعزّز من مكانتهم عند إجراء الاتّصالات اللازمة مع الحكومة البريطانية، أو أيٍّ من الحكومات الصديقة، لطلب المساعدة العسكرية.

3. لسهولةِ القيام بهجومٍ فوريٍّ مُضاد. فلقد كان الرّأي، أن تواجدهم في بيمبا، سيُمكّنهم من وضعِ اليد على سلاح الشرطة هناك؛ وبالتالي، إعلان التعبئة العامة، للانقضاض على الغُزاة في العاصمة، إجهاضًا لذلك العدوان الغاشم قبل أن تتوطّد أركانه.

كلام الملوك، ملوك الكلام، كما جاء في الأثر:
عارض جلالة السلطان كليًا التوجه إلى جزيرة بيمبا، حيث استبعد بحدسِه وفراستِه الحصول على أي إسنادٍ من الإنجليز؛ وآثر التوجّه إلى ممباسا، بدلًا من ذلك؛ فكان له ما أراد، وصدرت التعليمات بمقتضاه إلى القبطان. ثبت وثائقيًّا بأن حدس السلطان كان مُصيبًا؛ فمسألة وضع اليد على سلاح الشرطة في بيمبا، للقيام بهجومٍ مُضادة، ثبت عدم إمكانيّته، في ظل ما أكّده مُفوّض الشّرطة، في تقريره، بأنه كان قد أصدر تعليماته إلى الضابط المسؤول في مركز شرطة بيمبا، الرائد لونج لاند بأن ينقل جوًّا أكبر قدر من السلاح والذخيرة إلى زنجبار للإسناد. وممّا يُذكر، فإن الضابط المذكور نفّذ تعليمات المفوّض في حوالي التاسعة صباحًا؛ إلّا أن المفوّض اضطر، عقب ذلك، إلى التنسيق مع برج المراقبة لتوجيه الطيار بإعادة السلاح إلى بيمبا؛ بعد أن علمَ بسقوط المطار في أيدي الغُزاة. كما ورد في التقرير بأنه لم يكن في مقدور الطيار العودة إلى بيمبا، دون أن يوضح السبب إلى ذلك؛ ويعتقد أنه بسبب النقص في كمية الوقود. علم في وقتٍ لاحق، بأن السّلاح تم إنزاله في مطار دار السلام. (راجع تقرير مفوض الشرطة، ص 7، الأرشيف البريطاني)؛ كما أن مسألة الحصول على إسنادٍ من الإنجليز، كذلك لم تكن واردة؛ إذ مع التسليم الجدلي بأن نيّة الإنجليز كانت قد اتّجهت إلى الإسناد، لفعلوا ذلك دونما تأخير، كما حدث في كلٍّ من تنجانيقا، وكينيا وأوغندا، في وقتٍ لاحق من الشهر ذاته. يدعم هذا الرّأي ويُؤيّده، حقيقة وجود قطع بحرية بريطانية في المياه الإقليمية الزنجبارية، منذ اللحظات الأولى للغزو؛ ومع ذلك، آثرت عدم التّدخّل.
يُذكر أنه، وعلى الرّغم من هذه المحنة السياسية، التي ألمت بالسّلطان بالدّرجةِ الأولى، فإنه لم يفقد أعصابه ولا رباطة جأشه، في أيّ مرحلة من مراحل المحنة.

ففي خارج أوقات رسم السياسات، واتّخاذ القرارات – التي كانت تتمّ في غرفةِ العمليات - كان يجلس مع العامة، ويتباحث معهم في مسائل اجتماعية مُتنوّعة، وكأنّ شيء لم يحدث. فكان يُجالس الشباب، الذين هم في أواسط العمر، يتبادل معهم أطراف الحديث في الجوانب الرّياضية، التي كانت تستهويه شخصيًّا، كسباق السيارات، وألعاب القوى، كالملاكمة وكمال الأجسام والقنص؛ ويتجنّب، في الوقت ذاته، التباحث معهم في المصير الذي كان ينتظرهم، أو عن احتمالات التدخّل الإنجليزي، وما إلى ذلك من المواضيع، وفق الثابت في اللقاء الذي أجريته مع الشيخ سالم بن حمود الخروصي، في سنة 2002م. وفي هذا السياق، يقول سميثيمان: “نظرتي تجاه السّلطان أخذت تتعاظم في كلّ ساعةٍ ولحظة من تلك اللحظات العصيبة التي عايشتها معه، إنه رجلٌ يتمتع بالشجاعة ورباطة الجأش”. وفق الثابت في رسالةٍ وجهها سميثيمان إلى السير جورج مورينج، آخر مقيم بريطاني في زنجبار، ص 5، الأرشيف البريطاني.

في ختام هذا الجزء أقول: إن تفصيلات خروج جلالة السّلطان جمشيد من زنجبار، كثيرة ومتشعبة، ومهمة في آنٍ واحد. وعلى الرغم من أنني أطرحت منها الكثر من التفصيلات غير المؤثرة وغير الضروية لاستقامة المشهد العام في الأذهان؛ فإن حرصي، في موازاة ذلك، على أهمية إحاطة الجمهور الكريم بالحيثيات المحورية، دفعني إلى إرجاء ما تبقى منها لعددِ الغد، فتابعونا ....