على غير العادة جاء رفض مصر عرض فيلم "الخروج .. ملوك وآلهة" للمخرج البريطاني الشهير "ريدلي سكوت" من المؤسسة الثقافية الرسمية، والمعتاد في مثل هذه الأمور ـ منع كتب أو أفلام من التداول والعرض ـ أن يأتي الرفض من قبل المؤسسة الدينية ممثلة في الأزهر الشريف، في الوقت الذي كانت المؤسسة الثقافية تتخذ موقفا مناوئا للمؤسسة الدينية من منطلق ما تراه دفاعا عن حرية الإبداع. فماذا حدا بوزارة الثقافة المصرية أن تتخذ هذا الموقف الرافض لفيلم "الخروج" ؟
الوزارة تقول في بيانها الذي أصدرته في هذا الشأن أن الفيلم الذي استمد مادته من منظور توراتي جاءت أحداثه بعيدة تماما عن قصة النبي موسى عليه السلام التي وردت في الكتب السماوية الثلاثة، كما أنه محاولة أخرى لتهويد الحضارة المصرية، والفيلم كما جاء في البيان يقدم صورة غاية في العنصرية ليهود موسى عليه السلام، فلم يقدمهم على أنهم الطبقة المستضعفة في مصر، بل طبقة قادرة على المقاومة المسلحة، فيقومون بتفجير السفن التجارية ويحرقون بيوت المصريين ويجبرون الفرعون على الخروج، وطبقا لادعاءات اليهود التي تثار من حين لآخر أن أجدادهم هم الذين شيدوا أهرامات مصر، وآخرها في فيلم "الخروج .. ملوك وآلهة"، الذي يعد حلقة جديدة من المسلسل الصهيوني لـ"هرمنة" الحضور اليهودي في الشرق الأوسط القديم، وعلى طريقة مربي الدواجن حين يحقنون دواجنهم بالهرمونات، لتتضخم ويزداد وزنها !.
وخلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 قال رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيجن وفي حضور الرئيسين أنور السادات وجيمي كارتر إن الجهد الذي بذله كارتر في المفاوضات يفوق الجهد الذي بذله أجداده اليهود في بناء الأهرام ! وخلال زيارته للقاهرة في العام التالي قال بيجن أيضا إنه سعيد لوجوده في مصر التي تضم الأهرامات التي شيدها أجداده اليهود!
وما أكثر الأكاذيب التي اختلقها اليهود وهم يؤرخون لأنفسهم ولفلسطين ومصر وتاريخ الشرق الأوسط، بل ولتاريخ العالم، فالإنجازات الأعظم في هذا العالم هم صانعوها، والمظالم الكبرى هم ضحاياها، ورغم أن دولة إسرائيل نفسها طفح الفكر الصهيوني العلماني إلا أن الآباء المؤسسين لهذا الفكر مثل تيودور هرتزل الذي لم يكن يعرف العبرية، ولم يؤد الصلاة اليهودية في أي وقت لاذوا بالأكاذيب التوراتية ليبنوا عليها مشروع الدولة اليهودية، لكن تلك الأكاذيب كان ثمة من يتصدون لها من المؤرخين والمفكرين العالميين الذين برهنوا على أكذوبة الحضور اليهودي العظيم في فلسطين ومصر والشرق الأوسط.

الحقيقة في فجر الضمير
في كتابه الشهير "فجر الضمير" الذي ترجمه عالم الآثار المصري سليم حسن يقول المؤرخ الأميركي هنري بريستيد "وقد رأينا فيما سبق أن العبرانيين أخذوا الكثير من قوانينهم وأساطيرهم عن المدنية البابلية، أما فى الأخلاق والدين والتفكير الاجتماعى بوجه عام ـ الذى هو أول نواحى اهتمامنا فى هذا الكتاب، فإنا نجدهم قد بنوا حياتهم على الأسس المصرية القديمة . فالإسرائيليون حتى بعد استيطانهم فلسطين كانوا فى الواقع يسكنون أرضا من الأملاك المصرية مضت عليها فى هذا الحال قرون بأكملها، واستمرت بعد ذلك بلادا مصرية قرونا أخرى بعد استيطانهم لها، وذلك إلى عهد متأخر كعهد حكم "سليمان" الملك، حيث نجد أن الفرعون المصرى، أهدى سليمان مدينةجازر Gezer وهى بلدة حصينة من بلدان فلسطين كانت تقع على وجه التقريب فى كنف بيت المقدس.
وينوه العديد من الباحثين إلى التأثير الفرعوني على التراث الديني اليهودي، حيث إن الكثير من الأسفار اليهودية وخاصة ما يسمى بالأسفار الحِكمية التى تبحث فى مشكلة ألم الإنسان الصادق وصبره، ومنها المزامير (الزبور) التى تحوى على أكثر من مائة وخمسين نشيدا أو ترنيما روحيا، ومنها أيضا سفر الأمثال، وأسفار أخرى تكشف لنا عن مدى تأثير التراث المصرى الدينى والأخلاقى على الدين اليهودى وأسفاره إلى درجة النقل الحرفى لبعض النصوص الفرعونية إلى تلك الأسفار.
وفي كتابه "الله" الصادر عن دار الهلال المصرية أواخر ستينيات القرن الماضي يشير الكاتب الكبير عباس محمود العقاد إلى تلك المقارنة التي عقدها كل من هنري بريستيد والمؤرخ آرثر ويجال بين صلوات إخناتون وأحد المزامير العبرية، حيث انتهيا إلى اتفاق المعانى بينهما اتفاقا لا يُنسب إلى توارد الخواطر أو المصادفات.
وهذا حال كل المؤرخين والباحثين العالميين بل واليهود الذين رفضوا أن تنسحق ضمائرهم تحت سطوة الصهيونية العالمية، حيث تنتهي أبحاثهم إلى أن اليهود لم يكونوا بالقوم المتفردين في عظمتهم، بل خضعوا للتأثير الثقافي للشعوب الأخرى ذات الحضارات العظيمة في المنطقة كالفراعنة والبابليين، حتى أن المؤرخ "كيث ويتلام " يقول في كتابه "اختلاق إسرائيل القديمة إسكات التاريخ الفلسطيني" إن إسرائيل ليست سوى كينونة في الزمان الفلسطيني الكاسح !!!!!!!! ، بل يذهب المؤرخ البريطاني هربرت جورج ويلز في كتابه "موجز التاريخ" إلى أبعد من ذلك حين يقول في سخرية مرة: كانت حياة العبرانيين في فلسطين تشبه حياة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار، وفي النهاية لم تكن مملكتهم سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسوريا وآشور وفينيقيا، ذلك التاريخ الذي يفوق كثيرا في عراقته وعظمته تاريخهم!

شهادات إسرائيلية
وكانت لدى جماعة المؤرخين الجدد في إسرائيل نفسها الشجاعة لأن يواجهوا شعبهم بالحقائق الرهيبة، أنه لا يوجد دليل واحد على أن الأمة اليهودية تتكئ على تاريخ مجيد! وهذا ما يقوله نصا البروفيسور "زئيف هرتزوج" إن التنقيبات الأثرية المكثفة في أرض إسرائيل خلال القرن الماضي - العشرين – قد أوصلتنا إلى نتائج محبطة ، فكل شيء مختلق لم نعثر على شيء يتفق والرواية التوراتية! وعن الادعاءات التي تروجها الميديا الصهيونية أن اليهود هم الذين شيدوا أهرامات مصر قال البروفيسور الإسرائيلي "إسرائيل فينكلشتاين" رئيس معهد الآثار في جامعة تل أبيب، قبل ما يقرب من 10 أعوام أنه ليس هناك أي إشارات أثرية أو تاريخية توضح أن اليهود شاركوا في بناء الأهرامات، سواء في الكتاب المقدس أو التلمود، مشيرًا إلى أن الذين بنوا الأهرامات لم يكونوا عبيدًا، بل كانوا من الفراعنة من مختلف الطبقات، وعاشوا في منطقة الجيزة !

خطورة الفن السابع
لكن المشكلة أن أبحاث المؤرخين والمفكرين تظل حبيسة أدراج وقاعات البحث العلمي ولا يعرف بشأنها سوى الآلاف إن لم يكن المئات من المعنيين بالتاريخ والديانات، أما أفلام السينما فتشق طريقها إلى وجدان مليارات البشر في القارات الست لتشكل العقل الجمعي العالمي حسبما أراد صانعوها، وفيلم مثل "الوصايا العشر" للمخرج الأميركي سيسيل دي ميل، وبطولة نجم هوليوود شارلتون هيستون، والذي عرض في منتصف خمسينيات القرن الماضي وشاهده مئات الملايين في أكثر من 150 دولة، رسخ في الوجدان الجمعي العالمي الكثير من الصور المغلوطة عن قصة سيدنا موسى عليه السلام، وعن الوجود اليهودي في مصر، وكلها اختلاقات توراتية هدفها خدمة الروايات الإسرائيلية عن الوجود اليهودي في الشرق الأوسط القديم؛ لتحقيق أهداف سياسية في زمننا الحاضر، وكما يقول "كيت وايتلام": الصراع على الماضي يهدف إلى السيطرة على الحاضر !

هل منعت مصر ودول عربية أخرى عرض الفيلم ؟
هذا أضعف الإيمان في حرب التصدي للأكاذيب الصهيونية التي مهدت الطريق أمام سرقة جغرافيا وتاريخ وتراث الشعب الفلسطيني الشقيق، لكن "أضعف" الإيمان هذا سوف تواجهه الميديا الصهيونية بحرب شرسة، ولقد بدأت الحرب فعلا ، فعلى مدار الأيام الماضية لم تكف وسائل الإعلام الإسرائيلية عن مهاجمة المصريين لمنعهم عرض الفيلم، حتى أن صحيفة "يديعوت أحرنوت" قالت إن المصريين يكرهون اليهود ! هذا يعني بداية حملة عالمية لتجريم المصريين بمعاداة السامية ! السلاح القميء الذي تشهره الميديا الصهيونية في وجه كل من يجرؤ على قول الحقيقة، لكن ليس المصريون وحدهم في ميدان المعركة، بل العرب والمسلمين وكل أصحاب الضمائر الحية في هذا العالم، وما أكثرهم، حتى بين الشعب اليهودي نفسه !

محمد القصبي