احتوت المجموعة على ثلاثة عشر نصا قصصيا تنوعت المجموعة في الصوت القصصي بين الكاتب العليم ولسان حال الشخصية الانسانية والشخصية التجريدية كالرصاصة والجريدة، واتسمت القصص عند الكاتب الخنبشي بجملة من الخصاص في البناء النصي جعلتها تتفوق في التراكيب القصيرة والموجزة، وحضور الصورة الفنية مكتملة الاركان، وحضور المعنى المقتضب والمعبر عن الحالة النفسية التي تسردها الشخصية عن ذواتها .
تفادى الخنبشي الجمل الطويلة فهو يرسل مفرداته كالرسائل الهاتفية المتقطعة إلى حزم ولكنها متصلة لذات الشخص. كان حضور البقع الضوئية والدهشة محبوكة في المواقف بصورة تجعل من عملية التتابع في القراءة سمة لهذه المجموعة. الخنبشي واضح انه ملم بماهية القاعدة الكتابية للقصة القصيرة لكنه تجاوزها وكسر الاسترسال السردي بهدف صناعة لعبة سردية نجدها تتحول في العديد من القصص وكأنه دوران في الفضاء السردي ينطلق من نقطة النهاية لتلحق الرسالة والومضة الكتابية المقصودة في الطرف الآخر من القصص، فعلى سبيل المثال تبدأ الجريدة الخامسة عشرة في طرح السؤال " من منا أحق بزعامة هذه الجريدة ايتها الآنسات؟، وتجيب عليه الصفحة الأولى إلى الرابعة عشرة بتفاخر، وكل واحده مدعية بأحقيتها بالزعامة من وجهة نظرها، وموقعها في الأهمية، ولا يمكن الاستغناء عنها من قبل القراء.
معالجة الموضوعات المطروحة في القصص بشخصيات قليلة، وفي خيط مستمر من المواقف والصور الايحائية والمدلولات المتعددة بعضها سهل ولكنه ممتنع، كعوالم الأنثى والموت التي تخيلها الخنبشي كتابيا بمفردات ذات دلالة لكنها كانت مشحونة بعنصر الخيال. وللتدليل على ذلك نختار مجموعة من القصص للقراءة مثل (اغتيال رصاصة، اللعبة، ثرثرة على ضفاف قبر، لذة ميته) لتكون نماذج مباشرة عن تحليل البعض ليعكس درجة التقانة في الكل.
تبدأ المجموعة بقصة (اغتيال رصاصة) التي يتحدث الكاتب فيها عن رصاصة تتحدث عن نفسها منذ تكونها الأول وشحنها وتعبئة أنفاسها بالبارود إلى لحظة إطلاقها باتجاه هدف ما ليُعلن نهايتها وموتها بانفصال جسمها عن رأسها.
صورة سريالية قاتمة يلاحق الكاتب الخنبشي بطلة قصته "الرصاصة" في تصويره البطيء، وكأنها تعبر عن الحالة الانسانية للميلاد والتي يحددها جنس الابوين وديانتهم ومكان عيشهم ولا دخل للمولود الجديد فيها، فهو يشكل حالة جديدة تبدأ بالصراخ لحظة الميلاد ويتبعها تهيئة للمكان وللاسم المولود الجديد وما يلحقه من تطورات الحياة الإنسانية في الانتقال من يد إلى أخرى، فهكذا هي الرصاصة التي تنتقل بالإجبار وهي لا تحمل اختيارات قدرية تملكها فهي مصنوعة وليست صانعه لذاتها، لهذا نجد الخط الكتابي لدى الخنبشي تدرج في هذه الحالة للشخصية التجريدية ذات النهاية المتوقعة فهذا الكائن الصامت مخلوق لهكذا تنقل وانتقال وطريقة واستخدام، فاذا كانت النتيجة واضحة مقدما فما هي الاضافة في الطرح التي يقدمها كاتب القصة عن رصاصة تصنع وتنطلق نحو هدفها؟ وللإجابة عن هذا التساؤل افترض أن هناك مفاجئتين يمكن رصدهما للقارئ العميق، فالأولى في الاستخدام اللغوي السلس الذي ينقلك من حالة تجريدية إلى استعارة لحالة انسانية، ومن عمر زمني إلى آخر، في قوالب لغوية تحمل الحس النفسي لمشاعر مكبوتة ومتخوفة من المجهول القادم الذي يرتفع تصاعديا في السلم لموسيقى قدرية تطرُق أحوال الشخصية منذ نشأتها إلى الممات.
والمفاجأة الثانية فهي في التصوير السينمائي البصري الذي خط أبعاده الكاتب، ليجعل من القارئ أمام فيلم قصير عن صناعة وموت رصاصة، ولغة السرد في القصص هي سيناريو مكتوبة لحركة الصورة/الكاميرا بكل جاهزية متسلسلة لا تتطلب من المخرج السينمائي سوى التجسيد المباشر، فالمقطع التالي يعبر عن ذلك "نُصب في قوالب حديدية لنخرج منها ورؤوسنا آخرها مدبب كطرف الابرة الحادة. ومرة نسحق تحت مطارق حديدية ضخمة تنزل على رؤوسنا وتدعكنا دعكاً لتتداخل أحشاؤنا بعضها البعض بلا رحمة أو شفقة".
الكاتب الخنبشي يُقدم في عرضه للشريط القصصي حول حياة الرصاصة المتتابع لرؤية كتابية تستمد خيوطها من الصورة بعيد عن التقريرية المباشرة، لهذا نجد هذه القصة تسمو بالوجدان الجمعي أثناء القراءة لتصل بناء إلى تشكيل جوهر للمعنى ووحدة للأثر وإن اختلفت صورة التلقي.
أما عن قصة (اللعبة) فعنوانها مطلق المعنى وهو عنوان عام يحمل معاني كثيرة طالما انه لا يوجد تحديد دقيق للعبة بعينها مع ان الكاتب الخنبشي أورد لعبة معروفة يقدمها الاطفال في سلطنة عمان "سلوم بلوم عرق اللثب. جتني غنيمة تصبح بي" وهذه اللعبة هي الفاعل لدى الأطفال في القصة وإن اختلفت في بعض مفرداتها في نهاية القصة فلا توجد لعبة أخرى تتداخل معها، وهنا نقف أمام مسافة زمنية نتجت عن اقتراب الحالة الجوية – ما قبل الأنواء المناخية وما بعدها- رصدها الخنبشي بتقنية الحضور ومن ثم الغياب، فالطفل سالم الذي يقطن في بيت يقع في آخر القرية قرب مجرى الوادي لم يحضر للعب مع أصدقائه الأطفال كالعادة، مما جعل من غيابه علامة استفهام كبيرة، فغيابه استدرج جميع الأطفال لترك مكان اللعب والذهاب للسؤال عنه فخرجت لهم الأم لتجيب عن هذا الغياب وهنا نجد إشارة مركزة قالتها الأم " ألم تسمعوا بأن هناك إعصارا سيأتي هذا اليوم؟! وسالم منعه أبوه من الخروج. ردت غنيمة بكل عفوية صادقة. انه المطر يا خاله ونحن متعودون اللعب معه، فلماذا هذه المرة بالذات؟! بنيتي مطر هذه المرة ليس كمثيله" الكاتب العليم رصد هول هذا اليوم الذي سقط فيه المطر الغزير وقال " كانت ليلة قاسية بمعنى الكلمة، تداخلت فيها الاصوات إلى مسامعها، نبرات بعضها كان واضحاً والأخرى تزعق وتستنجد طلباً للنجدة" وتأتي المفاجأة بأن الطفل سالم رغم تخوف والديه عليه ومعرفتهم المسبقة بأخطار هذا اليوم هو الذي يرحل من الأطفال! وهذا ما تردد في نهاية القصة " تجمع الأصدقاء الصغار وبدؤوا يلعبون لعبتهم المفضلة، لكن هذه المرة بدون سالم، الذي رحل كحُلم عابر.. غاب بعدما جرفه الوادي مع من جرف. وسيكون غيابه طويلاً جداً يمتد إلى الأبد. أنصت الأطفال الصغار إلى غنيمة بإحساس مرهف الدموع وهي تجري تغييراً طفيفاً في كلمات اللعبة".
توظيف المفردة التراثية في قصة (اللعبة) ساعد في توصيل حاله الكتابة والمعنى الجوهري من خلال اختيار لعبة شعبية يمارسها الاطفال لقضاء وقت فراغهم وتسليتهم ساعدت الكاتب في الانتقال الزمني بين لحظة الترقب للحالة الجوية والنهاية المحزنة لغياب أحد الأصدقاء الصغار لكنها الطفولة عنوان الميلاد والاستمرارية في الحياة وتقنية هذه اللعبة بمد الارجل وطيها الى ان يخرج اللعب من الميدان فهكذا هي أحوال الانسان يبدأ في التناقص جسديا شيئا فشيئا إلى أن يصل إلى القبر المكان المحتوم.
في قصة (ثرثرة على ضفاف قبر) محور الاحداث يدور حول شخصية انسانية مأزومة داخليا تتحاور في محيط مقبرة مع شخصيات عرفتها حية والان ترقد تحت التراب وتحمل كل شخصية دلالة لدى هذا الانسان المأزوم الذي يتخذ من حالة السكر والعربدة حالة من الاستثناء والتشظي مع ذاته بين عالم الاحياء الذي هو منهم وعالم الأموات في القبور الذين يكلمهم وهو في حالة الحي الميت بفعل حياة البؤس التي يعيشها ويقع تحت طائلتها بدون أن يحسب حسابا للمكان وحرمته ولا الوقت من الليل ومخافته فنجده يعلو ويخفت في حديثه ليس لمقام الشخصية إنما لدرجة رضاه وزعله منها. فها هو يقول" إنهم يروني وأنا أسرق بقايا طعامهم من مخلفات القمامة كي أكافح بها وجع الحياة. أجمع بقايا علب الكبريت كي أشعل بها دفء الأيام الباردة.. لقد خاصمتني القطط كثيراً وأنا أجمع بقايا رؤوس الأسماك من بين يدي الأطفال الصغار الذين تعج بهم- كبرة السمك".
هناك الكثير من الاشارات التي يحملها الشخص الذي يقارن بين وجود المقبرة والقلعة الشامخة الى جوارها وكأنه يضع رمزين للفوقية يمثله شموخ ومكانة القلعة كبناء لإنسان اعتلى الأرض وظل حاضرا كشاهد عمن قطنوه على مر الازمنة وبين حالة الانسان ونهايته بعد أن يبلغ العمر مداه والموت ونهايته الذي لا يعرف صغيرا ولا كبيرا من خلال الاستدعاءات التي يقوم بها للأصدقاء والتعريف بسنهم وحالتهم من القرب به ومعه. فيذكر صديقه سالم" سالم المهووس بإصلاح الأجهزة الكهربائية، كم كان بارعاً في ذلك، لكنه لم يستطع أن يواصل هوايته وانطفأت موهبته لأنه لم يجد من يأخذ بيده. كان يمكن أن يصنع أشياء قد لا يتخيلها العقل".
وأخيرا قصة (لذّة ميته) وهي حملت عنوان المجموعة وكقصة مختاره هي الاستثناء في المجموعة التي تحمل طرحا جريئا عن المشاعر التي تختلج في داخل زوجة في ريعان شبابها عندما يهجرها زوجها ويسافر ليكمل تعليمه في الدراسات العليا لمدة ثلاث سنوات على التوالي لا يعود فيها إلى وطنه/ سكنه/ زوجته، على الرغم من انه لم يمض على زواجهما سوى شهرين في قسوة مبالغ فيها نوع ما من قبل هذا الزوج المبتعث إذا لا يبرر لذلك الكاتب الخنبشي فكل ما هو موجود في هذه القصة هو الاسترسال وراء مناجاة الذات وسلوك الزوجة الانثى وزفراتها الغضبى عن الظلم الذي وقع عليها بسبب هذا الهجران القصري الذي فرضه هذا الذي يسمى زوج بدون أدنى رحمه لأدنى درجات الانفصال الجسدي والعاطفي فيما عدا بضع رسائل ومكالمات هاتفية عابرة. فماذا عساها تفعل هذه المكلومة في ظل هذا الغياب سوى انها تمني النفس بالأحلام تارة وبمشاهدة التلفاز تارة أخرى في سلوك هو الآخر بالضرورة له جوانب صحية سيئة على الزوجة/المرأة ، ولا يمكن الاقتداء بسلوكها وبمبرراتها لما له من تبعات مرضيه كشفها الكاتب في نهاية قصته (لذة ميته) لزوجين على قيد الحياة لهم فهم مغالط عن معنى الشراكة التي يجب أن تكون في الأسرة السوية والحياة الزوجية ومتطلباتها الانسانية.

د.سعيد السيابي