نستظل اليوم تحت سماء الإبداع مع واحدة من الفنانات اللواتي يتميزن بالعطاء الدفاق والبحث والمثابرة المبنية على الخبرة المتراكمة، فنانة اليوم لا تنفك من مراجعة مُنجزها التشكيلي للوصول بتجربتها إلى آفاق أسمى من التجديد والأصالة والتميز، وهي بهذه المثابرة تعكس ذلك الإصرار المرسوم في شغاف نفسها للوصول إلى تلك الحلية التي تُخفي تحتها وهج المشاهدات والرؤية الخاصة لأسرار الفنون وجمالها، مؤكدة في ذات الوقت إصرارها على اجتراح طريقتها المملوءة بمعانيها الاستثنائية للوصول بلوحاتها بعد جهد ومعاناة الى لحظة التفجر الحي الذي يمثلها كرسامة ومتذوقة في آن معا، فبحكم وظيفتها كمتخصصة في مجال الفنون التشكيلية فإن هذا الأمر ساهم إلى إضفاء ميزة أكبر إلى شخصيتها المعطاءة فهي تتابع عن كثب الأحداث الفنية المتلاحقة التي تدور في حركتنا التشكيلية على نطاقيها المحلي والدولي حتى امتلكت من خلالها مهارةً حسيةً عالية بكثرة مشاهداتها الفنية ورحلاتها التشكيلية العالمية كل ذلك خلق بيئة فنية راقية تغرد من خلالها بصحبة ألوانها وأيقوناتها التي صنعتها لنفسها ومزجت معها خبرتها التشكيلية الواسعة لتسكب كل ذلك بألق على نتاجاتها الفنية.
إنعام أحمد لها أسلوبها وخطها الفني الذي بدأته منذ فترة طويلة فقد عرفها الوسط الفني بسيدة الأبجديات حيث ظلت تطرح الحروف المسمارية القديمة عبر أسلوبها الفني الخاص لتجذب انتباهنا للنواة الأولى التي كان الإنسان يسعى من خلالها إلى حفظ نتاجه الفكري وميراثه الثقافي والعلمي من الاندثار ولتتوارثه الأجيال اللاحقه، فكان خطها وأسلوبها الفني ذاك معروفاً للجميع وإن لم يحمل توقيعها، فبساطة مفرداتها الشكلية واللونية ذات العمق المعرفي والإنساني أصبح يحمل روحها الساكنة الوديعة التي تُنبئ بانكشاف عاصفة أخرى من الفن الجميل الذي تحتضنه بين جناحيها والذي يوشك على القدوم، وبالفعل فقد نقلت أسلوبها بتقنية فنية مقترنة بتحولات الوعي المتطور في خبرتها الفنية لتقترب من شرطة النماء الفني بانحياز بيّن، فأظهرت وباحترافية عالية أسلوبها الفني الحديث الذي اختارته ليكون النسخة الأكثر تطوراً وتكثيفاً واختصاراً وأكثر دلالةً وتعبيراً، وساهم في منحها حرية الانطلاق والتحليق في سمائها الفني بأريحية تامة، فأسلوبها الحديث يؤسس ملامح التعبيرية في أعمالها والتركيز في انبثاقاتٍ حُرة أتت من كثرة ممارستها واشتغالها المستمر فلاقت هذه التجربة أصداءً طيبةً من الفنانين والمتذوقين وعموم المثقفين في الداخل والخارج لأنها أظهرت نُضجاً فنياً عالياً في تجربتها الذي جاء ــ مثلما ذكرت آنفاً ــ من خلال ممارساتها المتلاحقة وقراءاتها الفنية وتقصيها لتجارب الفن التشكيلي المختلفة ومحاولة استخلاص الأُسس الجمالية والتقنية حتى انصهرت جميعها في ذاتها مُشكلةً مساحات لونية وضربات مغامرة ولمسات من الأشكال الرمزية والتجريدية وهذه باختصار ملامح تجربتها الفنية الجديدة التي نتنبأ أن تنقلنا لآفاق لوحاتها المستقبلية القادمة بأريحية تامة ورؤية مفتوحة. ولنقترب أكثر من تجربة إنعام أحمد فقد سُقت لكم هذه الرائعة التي تمثل إحدى تجاربها الفنية الحديثة لنتأمل تجريداتها ونُطرب ذواتنا بصوت ألوانها الشجية وإيقاعات ضرباتها العذبة، فهذا العمل يحمل لُغة تجريدية لونية تتنوع بين المساحات الهادئة والشكل ذي الصيغة الغامضة، الذي يُولد معه نزعة من أجل البحث عن حساسية الألوان وقوتها، فتركيز الفنانة على اللون كان بمثابة الوسيلة الفعلية للوصول على حقيقة العمل دون الاعتماد على عناصر تركيبية أخرى وهنا أستذكر مقولة مشهورة للفنان العالمي بول سيزان يقول فيها إن (كبرياء اللون يجعل الشكل مُمكنا) فصفاء الألوان في الخلفية يبعث على السكينة والهدوء، وضجيج الألوان وحركتها المتداخلة في الشكل شبه الدائري في مقدمة العمل الذي يوحي حسياً بشكل المرأة يبعث على الحركة والانتشاء برؤية شيء ما أثار الفنانة وألهمها، وهذا يسُوقنا حتماً إلى معنى كبير تود الفنانة أن تنسجه للمتلقى بين مستويين متباينين حساً ومضموناً فبين المعنى والمبنى ثمة شيء ما يتراءى أمامنا وهو ما سنشير إليه في حديثنا عن فلسفة العمل بعد قليل. وقبل أن ندخل في العمق الفلسفي للعمل أود أن أشير إلى أن القدرة الإبداعية للفنان دائماً ما تأتي من خلال الخبرة والخبرة تأتي عبر التواصل المستمر في إنجاز الأعمال التي تنطلق من الفكر إلى الشكل وهذه الخبرة هي التي ترتقي بمفهوم الجمال عند الفنان بمختلف قنواتها الإبداعية وصيغها الشكلية كلٌ وفق أفكاره وتقنياته المنطلقة من المادة إلى الحقل الافتراضي والتأويلي للصورة التي تتراءى أمام ناظريه ويعود هذا التنوع إلى تمازج عفوي بين ما هو متخيل وبين ما هو واقعي ليتم إخراج الفن من الزمان المحدود للفعل التشكيلي إلى المكانية عبر الصورة المرئية ليكون الاندماج فيما بينهم عن طريق الجمال بين مظاهر الأشكال ورمزيتها الدلالية والفكرة وأبعادها الفلسفية، فالرموز في الفن التشكيلي تتسم بكونها متغيرة حسب رؤية الفنان والبيئة الاجتماعية التي يعيشها وثقافته فهو ينمي قدراته وتصوراته بفضل فعل الإرادة والرغبة لعملية الإبداع وتجاوز التقليد والمحاكاة بكون الفن التشكيلي بالأساس قائم على الرموز فالعنصر التشكيلي المكون للتركيب البنائي للعمل الفني هو قائم بفعل الرمز أكان نقطة أم خطاً أم شكلاً أم لوناً فلا يمكن أن ندخل في أية قراءة تحليلية دون معرفة أبعاد هذه اللغة الرمزية والعلاقة القائمة بين الدال والمدلول فهذه المنظومة من الرموز تتجلى بفك مدلولاتها كبوابة لفهم العمل ليتسنى لنا معرفة التنوع القائم في مكونات العمل الفني وفي وحداتها وماهيتها الأساسية . فرمز القمر عند إنعام كما يظهر لنا هو كتلة متوهجة من الجمال اللوني بخلاف الواقع المشاهد ويسكن قمرها في سماء صافية مزدانة بقطع النجوم الملونة وليست البيضاء، لذا فإن إحساس الفنانة برمز القمر أخذ معه بُعداً مختلفاً تماماً عن طبيعته الحقيقية فالحقل الإفتراضي والتأويلي للصورة المرئية عن القمر الذي عادة ما يكون رمزاً للجمال قد تحول إلى كتلة متداخلة من الألوان التي هي عالمها الخاص وكأنها تقول أن القمر في الليل هو سيد السماء والألوان هي سيدة سماء اللوحة، فكان التشبيه ليدها سائقاً بين الدال والمدلول، فتأملها الشديد للقمر كان مثيراً لدرجة جعلها تسبح في عالمين روحانيين في آن واحد ومثل هذه الحالة التي تغشتها في لحظة التجلي الفنية هي ما تسمى الصدق الفني، فلا يمكن أن يخرج عمل فني للحياة دون أن يكون له دوافع نفسية من الفنان لأن كل شيء يحدث في النفس ويأتي بوجود مثير يُربط بمثير آخر فيوحي بصورة ذهنية جديدة يقوم الفنان بتسجيلها على لوحته برؤيته التي حددتها لحظة الانفعال آنذاك. ختاماً أود أن أُشير إلى أن إنعام تمتلك في سجلها الفني رصيداً كبيراً من العطاء التشكيلي سيكتشف المتأمل له مدى الإجادة الفنية التي تمتلكها وقدرتها العالية على إنشاء نصوص إبداعية بتعبير تشكيلي في نسق لغوي مفتوح.

عبدالكريم الميمني
[email protected]