د. جمال عبد العزيز أحمد:
ذكرْتُ في لقاءات سالفة بعضَ تلك الوقفات الممنوعة في سورة النحل، وأعملت حيالهاشيئًا من التحليل النحوي،والدلالي، وأدركنا معًا ـ بما لا يَدَعُ مجالا للشكِّ ـ أنّهذه الوقوف القرآنية بشكل عامٍّ ـ أيًّا كان نوعُها: جائزة، أم ممنوعة ـأنها في أصل أهدافها، وصُلْب مقاصدِها، وغاية مراميها إنما تتعلق تعلقًا مباشرًا،وواضحًا بالمعنى، وتتصل اتصالًا قويًّا،ومتينًا بالدلالة السياقية في الآية موضعِ الوقف، وأنَّ علماء الوقف، وواضِعِي علامات الوقف الممنوع ـ على وجه الخصوص ـ إنما كان أول اهتمامهم، وغاية غاياتهم في تلك الرموز، والعلامات هو عدم الوقف على ما اختلَّ معناه، أو اضطربتْ دلالته، فنبَّهوا على ضرورة مراعاة الواقف في أن يكون وقفُه على تمام المعاني، وكمال المباني، وأنه يشترط في هذا الوقف، أو ذاك استشراف أسمى المرامي، والقصدَ إلى أسنى المقاصد، والمعاني، وتَغَيِّي أكملِالفهوم، والوقوف على أوسع المضامين.
ونواصل في هذا اللقاء تتمَّة تلك الوقوف، ونَدُورُ حول دلالاتها، ونكشف عن بعض معانيها، ونوضح سببِ منعِ الوقف عليها، ونشرح أصل قاعدتها، ونستنتج ضابطَها النحوي، والإعرابي،واللغوي، وننبِّه عليه، ونشيرُ إليه؛ عسى أن يكون بيانًا، ونُورًا، وبسطا، وهدايةً لمعلِّمي التجويد، وإخواننا الكرامِالمحفِّظين، وأئمَّة الإقراء في المساجد، ودور التحفيظ، وعلى كل مَنْ مَكَّنهم الله وشرفهم بإعطاء إجازة التلاوة، وإجازة الحفظ،، لينهضوا للقيام بدورهم، ويهبُّوا لخدمة الكتاب العزيز في قضية الوقف والابتداء، ويبذلوا أقصى ما في وُسْعهم في تبصير المتعلمين، بضوابطِ، وقواعدِ هذا الوقف الممنوع في تلك السورة المباركة، وفي غيرهامن سور القرآن الكريم، ونعرض للآية (الثامنة والسبعين من سورة النحل) التي يقول الله تعالى فيها:(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
هذه الآية تحمل الوقف الممنوع الثامن من الوقفات الأحد عشر في تلك السورة القرآنية الكريمة (سورة النحل)، والناظر بعين البصر، وعين البصيرة يجدُ الوقف الممنوع على كلمة (الأفئدة)، وبعدها (لعلكم تشكرون)، والآية تتحدث هنا عن نعم اللهعز وجلعلى الإنسان، حيث أخرجَنا الله من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا،حتى الجلوس نفسه لا نستطيعه، بَلْهَ القيام، ولا ندرك من معالم الحياة غير صدر الأم الحنون، وما يكرمنا الله منه من لبن يبنِي عظامَنا، ويلملم شعثنا، ولا مآرب لنا في شيء من الحياة، ولا ندرك أصلا ما حَوْلَنا، ونبكي لأقلِّ شيء، ولا ندرك أيَّ أمر من أمور الدنيا، بل لا يمكننا عمل أي شيء يذكر، ونعان في كل يصلحنا، وكما قال الله تعالى:(لا تعلمون شيئًا)، ولعل تنكير (شيئًا) يوحي بكوننا لا نفقه، ولا نعرف أيَّ شيء مطلقًا في هذي الدنيا، فنحن مفتقرون إلى الله في كلِّ شيء، ثم جعل فينا، أيْ خلق فينا، ما يُصلِحنا، وينفعُنا، ويقوم بأساسيات الحياة لنا من: السمع، والبصر، والفؤاد:(وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة)، وهنا لم تنتهِ الجملةُ معنويًّا، ودلاليًّا، وإن انتهتْ نحويًّا، وقاعديًا، إلا في باب العطف فقط، فما بعد كلمة (الأفئدة) هو تعليل، وبيان الأجلية، والسبب في تلك الخلقة، وفي ذلك الجعل، وهو أن نشكر ربنا، ونحمد مولانا، ونقرَّ، ونعترفَ له بكمال الربوبية، وجلال الألوهية التامَّيْنِ، وها الجلال، والكمال المُطْلَقَيْنِ، وأن نظل حياتنا كلَّها مدينين لقدسيته، ولعظمته بالشكر، والعرفان، والإقرار التام بأنه المستحقُّ للعبادة المستوجِبُ للشكر الكامل على طول الدهور، ومر العصور، وفي كل مراحل الحياة، فجملة (لعلكم تشكرون) مرتبطة في أصل المعنى العام، والكليِّ، والإجماليِّ بما قبلها، حيث إنها تبين علة الخلق، وجعل الحواس ، ومنها الأبصار والأسماع، وخلق الأفئدة للإنسان، و(لعل) تفيد الامتنان بحصول الأمر، فالشكر يجبُ أن يصدر عن البشر لربهم، وعن الخلق لمولاهم، ولعل الضمير (واو الجماعة) هنا يدل على وجوب الشكر مِنَ الجميع،وأنهم ينبغي أن يكونوا على أتقى قلب رجل واحد من حيث الاجتماع على الشكر، والتعاون على استمرار ذلك الحمد، وسرمديته، وأزليته،، فهي جملة تعليلية، مرتبطة بما قبلها ارتباط العلة بالمعلول، والأمور بأهدافها، والتكليفات بما يجب حيالَها من حمد، وشكر لمن كان سببًا فيها، وأصلا في وجودها، وأعطاها، وحباها لخلقه؛ ليحمدوه كثيرا، ويشكروه كثيرا، ويكون الشكر منهم جماعيًّا، ومتواصلا، وتكون الأيادي متكاتفة في عمله، ومتعاونة في حصوله، فجملة(لعلكم تشكرون) من الحرف الناسخ، واسمه الضمير المتصل، وخبره (جملة تشكرون) التي حُذِفَ منها مفعولها للعلم به، وكمال إدراكه، وهو الله عز وجل أي لعلكم تشكرونه، وقد حذف الضمير للعلم التام به، ومعرفة من يستحق الشكر على نعمه وآلائه، ومننه، وأفضاله، هي بمثابة التعليل لكل ما سبق، وبيان الأجلية في خلقها، وجعلها من النعم، والمنن، فمن أسباب منع الوقف هو ارتباط التعليل بما قبله، وبيان سببية،وأجلية حدوث كل هذا السابق، ولا يُوقَف على المعلول دون بيان علته، فالعلة، والمعلول كالشيء الواحد في شدة الارتباط، وتمام المعنى، وحرارة الوصال، وعمق الدلالة، وتشابك المعنى، وترابط المضمون، وكأنَّ القارئ قرأها ويقرؤها كلها في كل مرة في نَفَسٍ واحد، وكلّ لفظ فيها مرتبط بأخيه أشد الارتباط: في عقد منظوم، ومعنى منغوم، ومضمون مُحْكَمٍ، وهدف بالتداخل والتشابك مُبْرَم، وحلقات متماسكة، متساندة، متناغمة،متعاضدة.
ويأتي الوقف التاسع في تلك السورة المباركة في الآية (الثمانين) من السورة، والتي يقول الله تعالىفيها:(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ).
الوقف الممنوع هنا على كلمة:(ويوم إقامتكم)، والآية ـ كما هو معلوم عند القارئ المتأنِّي، المدركِ لما يقول ـ تأتي في إطار تعداد النعم الكثيرة التي أنعم الله بها على الخلق، حيث عدَّد منها أنه جَعَلَ لنا من بيوتنا سكنًا نرتاح فيه، وتسكن أجسادنا، وتستريح من عناء العمل، والكدِّ، والسعي، والاجتهاد، وتحصيل المعاش، ومن أجمل الكلمات التي يستريح لها الفؤاد، وتهش لها النفس، وتفرح الذات كلمة(سكنا)، كما قال الله عز وجل من قبلُ في معرض الامتنان بتشريع الزواج، وتحقيق الوئام النفسي والروحي والعاطفي في (سورة الروم، الآية 21):(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، فتحقيق السكن، وهو مأخوذ من السكون التام، وانعدام الحركة، وهو كناية عن كمال الراحة، وتمام الغاية، وتحقيق أسمى معاني الانسجام النفسي، والداخلي، فالمرء حقًّا لا يرتاح إلى في مسكنه؛ حيث تعوَّده فيه على جمال حياة السكن، وكمال الراحة التامة، فكلمة (سكنًا) المنكَّرة التي تحمل كلَّ معاني ودلالات وأهداف ومقاصد السكن في هذه الحياة، والنعمة الثانية أنه جعل لنا من جلود الأنعام بيوتًا نحملها معنا، ونستخفها يومَ ظعننا، أي سفرنا، وترحالنا هنا وهناك على هذا الكوكب، وكذاك يومَ إقامتنا، واستقرارنا، فهي من بين ما يدخلُ في معنى البيوت، حيث الرياش، والمفارش الناعمة،والفرش المريحة التي يتلذذ بها الإنسانُ، وهي دليل على رغد حياته، ولين عيشه، إذا ما وضعنا في اعتبارنا أن شركات كبيرة تقوم على شؤون الأثاث، وتصنع تلك الفرش وهاتيكالرِّياش، ونراها أمامنا غالية الأثمان، مرتفعة التكاليف، وهي من مفاخر الناس في المساكن، ومن دلائل التَّرَف، ومن عَلائِمِ النعم، وشَارَاتِ الفضل الإلهي على بعض الناس، ثم تابع القرآن الكريم تعدادَهذه النعم، ولم يقف عند (إقامتكم) فقط، أي عند استقراركم في بلادكم، وبيوتكم، وعودتكم من أسفاركم، بل استمرَّ القرآن في رصد هذه الآلاء، وبيانها للعيون، وتجليتها النفوس التي تمر عليها دون شكر، ودون تفكُّر، فقد أنساها الإلفُ، والعادة اليومية لها نسيانَ الشكر لصاحبها، والتغافل عن الحمد لمعطيها،وجاعلها، قال تعالى:(ومن أصوافها) أي: من أصواف تلك الأنعام على اختلافها، وتنوعها، وتباينها، وكذا (من أوبارها)، وكذلك استغلال (أشعارها)، وجعله أثاثًا، ومتاعًا إلى حين، فلم يشأ القرآنُ الكريمُ أن يذكَر بعضَ النعم، ويترك بقية النعم الأخرى، وهو في معرِض بيان سَعة عطاءاتِ الله، وشمولِ أفضاله، فلو وقفنا عند (إقامتكم) لقطعنا سيلَ تذكُّر كل هاتيك النعم، ولَفَصَلَ بينها وبين ما بعدها مثلُ هذا الوقف،فقطع هذا الاسترسال في تصورها، وتخيُّل سعتها، وكِبَرِ حجمها، وتنوعها،ومن ثم مُنِعَ الوقفُ حتى تستمرَّ النفسُ في تصور كلِّ تلك الآلاءِ، وكلِّ هذه الفيوضات الربانية على خلقه، فذكر كلَّ ما يتعلق بجلود الأنعام، وما يخرج منها من أصوافها، وأوبارها، وأشعارها، وما نقوم به من تأثيث البيوتِ منها، سواءٌكنا مستقرين، أم مسافرين، ظاعنين، أم مقيمين، والواو واوُ العطف، وعرَفنا سلفًا أن من قواعد الوقف أنه لا يُوقَفُ على المعطوف دون المعطوف عليه؛ لتتمة المعنى، وتكامل المضمون، وبيان المعنى الكليِّ الإجماليِّ المقصود من سَوْق ذلك العطف، وتتابعِ جُمَلِهِ، فتعددتِ الواوُ لتعدُّد المنعَم به، والقارئ يقرؤها كلها، ويتعايش مع معانيها، ويتعمق في دلالاتها، وكأنها سلسلة متتابعة الحلقات، متواصلة الترابط، متكاملة المضمون، يأخذ بعضها بِحُجُزِ بعضٍ، ويرتبط أحدُها بالآخر ارتباطَ القلبِ بالجسد، والروح بالجسم، إنه ترابط نوعي، وعضوي، ومتشابك، ومتداخل، ومن ثم حَرَصَ علماءُ الوقف هنا على عدم الوقف في مثل تلك المواطن، ليكون القارئ، ومعه المستمع الفطن مدركَيْنِ لكلِّ تلك المعاني، وكل هاتيك الدلالات، والقيم، ويعرف كل منهما حجمَ هذه النِّعم التي أنزلها اللهُ للبشر، فيحمدونه كثيرًا، ويشكرونه طويلًا، ويُقِرُّونَ له،ويعترفون له بكلِّما أنعم به عليهم، وبكل ما تفضل به في كلِّ مراحل البشرية إلى يوم القيامة، فعلى المعلِّم،والمحفِّظ أن يبيِّن لطلابه، ومتعلميه السببَ في عدم الوقف هنا، وأنه ممنوع لهذا السبب، وأنه من قبيل العطف الذي يلزم أن يستوفيَ أركانَه من: معطوف، ومعطوف عليه، ومن حرف العطف، وأن هذا العطف في خلاصته أنه يجعل القلب عَطوفًا حانيًا في نظرته الكلية، المتبصرة، المتأنية للأمور، واستيعابه للمعاني، وإدراكه للمقاصد، والمرامي.
هذا، ونكمل حديثنا حول ما تبقى في السورة الكريمة من وقفات ممنوعة في لقاء آخر، متجدد، نسأل الله ـ جلَّ جلاله ـ أن يبصِّرنا بجلال القرآن الكريم، وكمال دلالاته المرتبطة بجمال وقفاته، بكل أنواعها، وأن يجعلنا ممَّن عايَشه بحقٍّ، وتلاه بصدق، وتعشق تفسيره، وتأمل معانيه، ووقف عند كل حرف فيه، يقرؤه بقلب واع،ويستجليه، ويستمطر بكليته روحًا وذاتا كلَّ ما فيه، ويتوقف أمام جمال وجلال معانيه، ويقف على كمال مراميه، وصلى الله، وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية.
[email protected]