سامي السيابي:
تمتاز الأيدلوجية الإسلامية في تقويم الأخلاق بالواقعية، من حيث مراعاة الطباع البشرية، وما يناسب كل شخصية من فيتامين تنموي، وتمتاز كذلك بالشمولية لكل جوانب التعامليةوالتعليمية الأخلاقية في سيرالحياة، لأجل أن يكون الإنسانُ إنسانا بأخلاقه، فبدون الأخلاق تفقد الإنسانية، لذلك أنزل في سبيل تمكين الإنسانية قرآن وارف بمكارم الأخلاق، وأرسل رسولا عظيما في تنظيرها دقيقا في تنفيذها، ويظهر من الهدف في إرساله هو التزكية ولا تتأتى التزكية إلا بالعلم، قال تبارك وتعالى:(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (آل عمران ـ 164)، والتزكية تقدمت على العلم في الآية بتقديم الغاية من العلم، حرصا أن تكون الهدف من ورائه، وكذلك كانت الغاية من بعث الرسل في كل أمة: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (النحل ـ 36) فالقضية الأخلاقية هي القضية الكبرى في مجرى الحياة، جاء طرحها متزامنا مع قضية الإيمان من حيث الأولوية،وفي هذا المقال نعرض طرفا من الأسس التربوية العامة الدافعة لتقويم القيم الحميدة:
1ـ التدرّج: التربية كالبناء، تحتاج إلى تدرّج في الإعمار، وهذه هي سنة الخالق تبارك وتعالى في الإنشاء، فقد خلق الأرض والسماوات في ستة أيام مما تعده عظمته، وهو القادر أن يقول للشيء كن فيكون، وعليه فهذه رسالة للمربين وللبشرية، أنّ الإنجاز المتدرج الذي يأخذ وقته هو السير الصحيح في التربية، وإنما التعجّل مخالف لسنة الله.
2ـ استغلال الموقف التربوي المناسب: وفي هذا الأساس تنزلت الكثير من الآيات القرآنية عند مناسباتها، وقد أفرد علماء التفسير لأسباب النزول جانبا مهما وعدوه شرطا للتفسير،ويجدر بالذكر هنا الحديث عن ذكر الاحتفالات الدينية كالمولد النبوي والإسراء والهجرة، فهي بدايةً ليست من قبيل البدع الحسنة ولا السيئة، وإنما من باب فـ(ذكّر) استغلالا للموقف الديني نفسه، واستغلال ذلك الحدث تربويا، ففيه ما لا يخفى من تجديد الولاء للدين وتعزيز القيم واستنهاض المبادئ في النفوس من الحب والنصرة وغيرها، وكانت الاحتفالات من باب التنظيم لا البدعة، ففي ذلك استغلال تأخذ الأمة مجتمعة جرعاتها الوجدانية والفكرية، والإحساس بالوحدة الإيمانية الجامعة، وإنما غض النظر عن هذا هو النظر أسفل القدم.
3ـ استثمار الطبع البشري: لم يعمد الدين الحنيف إلى الإقرار بالطبائع فحسب، بل عمد إلى استغلالها في التربية الأخلاقية، بتهذيبها وتوجيهها، وحسن الاستفادة من كل منها، ومن رعايته لها الحد من نمو الطبائع الضارة والفاسدة للتكوين الخلقي، وعلى المربين أن يسايروا النشأة في الفردية، منذ غرتها، لأنها قابلة للنمو المفرط إن غذيت، فتأتي وظيفة التربية للحد من نمائها وتهذيب زوائدها. ويحصل بالتوجيه لأجل التحوّل، بتعليق رغبات المستهدف إلى الخير، أو على الأقل في طريق من طرق الخير، لمحاولة امتصاص شحنات الطبع التي شحن بها، فمثلا من كان في طمع مفرط بالدنيا وزينتها إلى درجة إهمال الآخرة، يحتاج أولا إلى ملئ قلبه بالإيمان الوجداني، ويوضح لشحنات طمعه أن ما عند الله خير وأبقى سواء في الدنيا أوالآخرة، ثم يوجه طمعه من زهرة الدنيا إلى الطمع إلى ما عند الله، ثم يجرى تعليق طمعه إلى ذلك، طلبا لما هو أعظم، عندها يبدأ بالتحول من التقليل من الجشعإلى أن يعتدل شيئا فشيئا.
4ـ التطلّع: قال الله تعالى في ذلك: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) (طه ـ 131)، أزواجا منهم أي أصنافا منهم، واستعار من الزهرة جمالها قصر المدى وسرعة الذبول ثم الفناء، فإنما ذلك للباحثين عن المتعة المؤقتة لكي يفتنون فيه، لكن التطلع الحقيقي على (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) فهو لمن اتقى وأحسن، وهذا هو التطلع الذي يجب أن يمثل به بين ناظري المتلقين.
5ـ التضمير: هو طريقة تكوين العادة، من خلال ازدحامها في بيئة تراكبت على الأخلاق الصالحة فتراكمت فيها مما أنشأ عرفا أخلاقيا سائدا، وهكذا نشأت الطباع السائدة لأقوام أو جماعات أو عائلات، أو أفراد، ففي تلك البيئة الخلقية تضمر الطباع الطيبة أو تقف عن النماء الطباع السيئة، من خلال تغذية المزاحم، الذي من خلاله يحدث التمدد والانكماش، الكلي أو الجزئي، فتلك التزاحمات التي تشجع على الجود وتثني على فاعله تكمش طبع البخل وتمط طبع الكرم.
6ـ إثارة الدافع الذاتي: فهو القوة الكامنة في الإنسان، من خلالها يستطيع دك الجبال دكًا، فبتحريكها يتغير السلوك الظاهري للجسد، والسلوك الداخلي للنفس، من فكر وعواطف وقلب، وهذا العنصر يحتاج إلى طرق لتنميته، وشرح ذلك في الآتي.
* طرق التحفيز الذاتي:
1ـ التحفيز الإيماني: الإيمان الصادق هو قوة مهيمنة تستطيع التحكم على مركز التفكير والعطف والضمير والطباع، فتوجه الخلق والسلوك بكل أنواعها بكل اقتدار:
أ ـ (الدافعية الأولى):يؤمن بأنّ الله يجري قوانين الخير والحق والعدل والفضل وفق ربانيته، فلا يأمر إلا لصلاح عباده، ولا ينهى إلا اتقاء فساد يضرهم، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) (الأحزاب 36) ولا تقابل إجابة تلك الأوامر واجتناب تلك النواهي إلا بالرضا، ثم بالجزاء الكبير والمقيم، فإنّ ذلك محفّز ذاتي مؤثر فعال ودافع وحارس ورقيب للقيام بسمو الأخلاق والترفع عن فسافسها تطلعًا للفوز بالثواب ونيل شرف الرضا، يصاحب الإنسان في سره وانكشافه حتى مماته.
ب ـمنح القوة: يولد الإيمان قوّة عصيّة تفوق القوى، وكيف لا؟ وهو القابض على زمام العقل بالحق والبرهان من الله، وعلى ناصية الفؤاد بعاطفة منطقية محبة لله والثقة بحكمته، والتسليم لوصاياه واليقين بقضائه، فيلتزم التزاما صادقا محبا، يعض بالنواجذ على عصم الأخلاق متجاوزا كل العقبات والمعارضات بإباء وعزم وإقدام وتفانٍ لا يعرف قاموسه الهوادة.
2ـ التحفيز الفكري: يعي بمعرفة الفضائل الخلقية معرفة وافية صحيحة، فيستحسن العقل اختيارها لما تضفيه من جمال، وما تزكيه عن الرذائل والنقص، فحسن الخلق ينضح من حسن الوعي، وتتلخص شروط التحفيز الفكري في الآتي:(الحكمة) بها يراعى المستوى الفكري والعلمي والذكاء العاطفي،(الموعظة الحسنة) اختيار الأسلوب المؤثر للإقناع، (الإقناع) باستخدام الدليل النقلي والعقلي المنطقي بطريقة الحوار والمناظر والجدال الذي يهدف إلى الوصول للحق.
3ـ التحفيز النفسي: بتحريك مؤثر الترغيب والترهيب وعامل الطمع والخوف في النفس الإنسانية، والتشجيع والإكرام والتلويح بالعقوبة وتنفيذها في بعض الأحيان (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا، وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (الإسراء 9 ـ 10).
4ـ التحفيز الوجداني: ينمو الوجدان بتعريضه لخبرات ومشاهد منها يستشعر حلاوة الفضائل الأخلاقية ويحس بالمسرات التي تنتج بسببها، ويحس بقبح الرذائل الأخلاقية والمرارة التي تنتج بسببها، وللوجدان قدرة على تحريك الإرادة فتدفع النفس نحو السلوك الإيجابي القويم، فمثلا إذا تعرض أحد لمشهد من مشاهد الظلم أو حادثة، يشعر بمرارته، ويرى نتائجه السلبية من سلب للحقوق، مما يدفعه للميل إلى العدل لما فيه من حفظ الحقوق، ومن ذلك تنتج استقامة ملحوظة مما يشاهد من الظلم الذي وقع على الأراضي المحتلة وسلب حقوق أهلها واغتصاب مقدراتها، فحدثت موجات أخلاقية تنفق كلما صار هجوم على غزة أو الأراضي المقدسة، وقد تقع القصة المحكية موقع المشهد المرئي وإن كانت من نسج الخيال.
* كاتب عماني