د. أحمد مصطفى أحمد:
تجري حكومة المحافظين في بريطانيا مراجعة لطريقة تمويل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عبر رسم التلفزيون الذي تدفعه كل أسرة تملك جهاز تلفزيون، وذلك منذ عام 1946. وتوفر رسوم "رخصة التلفزيون" أكثر من ثلاثة مليارات جنيه إسترليني للهيئة سنويا. وترتفع الرسوم سنويا بما يوازي ارتفاع معدل التضخم. لكن وزيرة الثقافة البريطانية نادين دوريس أعلنت هذا الأسبوع أن الحكومة تجمد أي زيادة في رخصة التلفزيون، وأن هذا الإعلان قد يكون الأخير، ما يعني أن المراجعة التي ستجريها حكومة بوريس جونسون قد تعني إنهاء هذه الطريقة لتمويل (بي بي سي). ومبدئيا، سيعني التجميد لبضع سنوات خسارة الهيئة نحو ملياري جنيه إسترليني كانت ستدخل ميزانيتها من زيادة الرسوم اتساقا مع التضخم. وتسرب الحكومة منذ فترة أن على (بي بي سي) أن تبحث عن طريقة أخرى للتمويل غير رسوم رخصة التلفزيون التي يدفعها المواطنون. وهكذا يبدو أن فترة التمويل الحالية التي تنتهي عام 2027 ستكون الأخيرة.
بالفعل، تنشر وسائل الإعلام البريطانية سيناريوهات مختلفة لمستقبل الهيئة التي بدأت باعتبارها "صوت الامبراطورية" قبل نحو قرن وأصبحت واحدة من أهم منافذ الإعلام في العالم، فضلا عن أنها تقريبا الباقية من إرث المملكة المتحدة بعد بيع اليخت الملكي "بريتانيا" وتدهور وضع "المجلس البريطاني" نتيجة تقليص ميزانيته باستمرار. وإذا كانت تلك الرموز التي اندثرت أو كادت عنوانا لبريطانيا حول العالم، فإن (بي بي سي) تتجاوز ذلك إلى كونها عنوان بريطانيا عالميا ومحليا. فما زال كثير من البريطانيين يريدون (بي بي سي) كما هي ـ وسيلة إعلام يمولها الشعب لا تبث إعلانات وتعتمد قدرا هائلا من الموضوعية. ولطالما اتهم المحافظون، سواء وهم في الحكم أو المعارضة (بي بي سي) بأنها "يسارية التوجُّه"، فليس موقفهم الآن مفاجئا. لكن، حتى حزب العمال عندما كان في الحكم، خصوصا في ظل حكومة توني بلير لم يتوانَ عن انتقاد (بي بي سي) واتهامها بالانحياز. ولعل إجماع الأطياف السياسية على انتقاد الهيئة شهادة دامغة على موضوعيتها ـ ولو نسبيا ـ وعدم انحيازها السياسي خصوصا للحكومة.
لكن حكومة بوريس جونسون، ومعه مجموعة أنصار البريكست (الخروج من أوروبا) في حزب المحافظين تميزت بما يفوق ما قبلها في عنجهيتها في مواجهة أي انتقاد وفي تجاهل القواعد والأعراف للديموقراطية البريطانية العريقة. ولأن (بي بي سي) والقائمين عليها يدركون ذلك، حاولوا للأسف ممالأة حكومة جونسون حتى أصبحت تغطيات الهيئة أحيانا تبدو "محافظة أكثر من المحافظين". لكن ذلك لم ينفع الهيئة ولا الجمهور بالطبع. وفي النهاية تبدو الحكومة عازمة على دق المسمار الأخير في نعش المنفذ الإعلامي التاريخي ومحاولة طمس عنوان بريطانيا في العالم وحتى في الداخل. بالطبع تساق في تبرير الحملة مقولات حق يراد بها الباطل من قبيل ضرورة وقف الهدر وضبط الإنفاق في الهيئة، أو ادعاء حرص الحكومة على عدالة المنافسة بين (بي بي سي) وغيرها. وفي ذلك تأليب لمنافذ الإعلام التجارية على الهيئة التي لا تضطر أحيانا للمواءمة؛ لأنها لا تحتاج للإعلانات والرعايات من الشركات والأعمال.
صحيح أن المشهد الإعلامي العالمي كله يتغير، وأن التطور التكنولوجي فرض تحديات جديدة على وسائل الإعلام، لكن (بي بي سي) لم تكن أبدا متخلفة عن الركب. بل إن موقعها الإلكتروني كان من أوائل مواقع الأخبار الرئيسية على شبكة الإنترنت، وفي الهيئة إدارة كاملة لتطوير البث الرقمي تواكب أحدث التطورات التكنولوجية بل وتبتكر فيها أيضا. ومرة أخرى يثير ذلك "حسد" منافسيها من المنافذ الإعلامية التجارية وأيضا عدم رضا الحكومات عليها؛ لأنها ليست مضطرة لأن "تخطب ود" هذا الجناح أو ذاك طالما تمويلها يأتي من الشعب مباشرة. ومن بين التبريرات من الحكومة الحالية لمحاولة "خنق" (بي بي سي) من باب التمويل القول بتخفيف العبء عن الناس بوقف تحصيل رسم رخصة التلفزيون منهم، خصوصا كبار السن. والحقيقة أن المحافظين عموما وحكومتهم الحالية على وجه الخصوص، الأكثر تجاهلا لكبار السن في بريطانيا.
من الواضح تماما أن الحكومة البريطانية لن تتوقف حتى تحقق ما تريد من النيل من (بي بي سي). وستجد من يجعل من الأمر كأنه تطوير وتحديث إلى آخر تلك الكليشيهات الرنانة، لكن في النهاية فالواقع هو القضاء على آخر رمز مهم من رموز الديموقراطية البريطانية. فأي سيناريو مقترح لتمويل الهيئة يتضمن جانبا تجاريا، وبما أن حزب المحافظين هو حزب صديق لرجال الأعمال، سيكون لهؤلاء الأخيرين سيطرة حاسمة على ذلك المنفذ الإعلامي المستقل حاليا من خلال ليس فقط الإعلانات، بل الاستثمار في الإنتاج، وبالتالي القضاء على آخر ما تبقى من شبه حيادية وموضوعية في الإعلام البريطاني.
قبل سنوات طويلة حاول ملياردير الإعلام الأسترالي روبرت مردوخ النيل من (بي بي سي) بإطلاقه شبكة سكاي نيوز وشراء صحف بريطانية عدة. لكن الهيئة استمرت، رغم أن سكاي رسخت نفسها أيضا. والآن، تقوم حكومة المحافظين بما لم يتمكن مردوخ وغيره من تحقيقه. وللأسف يبدو الأمر كمن يقطع لسانه بيده؛ لأنه لا يطيق صراحته النسبية أحيانا، دون أن يدرك أنه يخسر بذلك أكثر مما يكسب.