أ.د. محمد الدعمي:
يلاحظ المرء أن أكثر الآثار المعيقة لهذا النوع من الحبس في ظلامية الماضي التي تجعل بعض أقوام الإقليم تخشى الضوء وتختفي لتتجنب الإشعاع النابض بالحياة، ذلك الإشعاع الذي يحرك الركود والذي يدشن منافذ الهروب إلى فضاء الأضواء. لا ينبغي تفسير هذه الاستعارة المحبطة بوصفها تقييمًا معياريًّا سابقًا لأوانه، تقييمًا يقدم من نقطة بداية جدل البحث؛ لأن الحبس في الماضي الوسيط غدا مقبولًا، إن لم نقل مستحبًّا من قِبل ملايين البشر الذين اعتادوه، ثم استمرأوه أسلوبًا لوجود اجتماعي وسياسي راكد بعد أن تم "تدجينهم" على ذبذبته.
وكمثال على تهمة "النقد غير البنَّاء" التي قد تبرز هنا، تأتي خطوة مهمة للأمام على سبيل مباشرة الجدل الرئيسي لهذه المقالة؛ لأنها تحيل الإنشاء إلى جهد وصفي في معظمه، أكثر من إبقائه إنشاءً استفزازيًّا مشحونًا بإرادة سلطوية فوق نصية (من نمط أدب الاحتجاج الاجتماعي)، إرادة ترنو إلى إطلاق التقييمات المعيارية وحث التغير على نحو قسري باتجاه مستقبل أفضل، ولكن بشكل فضفاض. لا يشكل هذا البحث هجومًا على أي فرد أو جماعة؛ لأنه لا يزيد عن مرآة تعكس الذات بشيء من التفصيل لتمكين أقوام الشرق الأوسط وهؤلاء القائمين عليها والمهتمين بها، ليس فقط لرؤية الحقيقة، ولكن كذلك لاكتشاف أسباب التجاعيد والتشققات التي راحت تطفو بسرعة على بشرة مجتمعات الشرق الأوسط بسبب مرض داخلي عضال يمكن الاستدلال على وجوده، على أغلب الظن.
وما دام جدل الأسطر الآتية غير مصمم لدحض أو لتشجيع أو رد آراء موجودة سابقًا، فإنه لا يعتمد كثيرًا على مواد نقدية متاحة أصلًا؛ وكما أشرنا أعلاه، تنطوي هذه المقالة على جهد تأملي ارتجاعي. تعتمد صفته الارتجاعية ذات الباحث وأصداء التجربة الفعلية المباشرة، أكثر من استثمار جهود كتَّاب أو مؤرخين آخرين لإطلاق "تيار الوعي" من أجل التنقيب بحثًا عما هو مهم بحق، مع إشارة خاصة إلى الاحتفاظ استذكار صدمات الوعي المتواترة التي قد تساعد لبلوغ رسالة هذه المقالة النهائية عبر قياس واختبار درجة تحمل القارئ الفطن.
وعليه، فنظرًا لوقوع الإقليم في فخ رؤيا تاريخية رجوعية مثابرة على بناء الأسيجة وإقامة العوائق لمنع الجديد وحجب الشجاع، فإن للمرء أن يلاحظ، في هذا السياق، عوامل تعتمد ذات الحبس الخيالي والرجوعي المذكور أعلاه: فهذه هي العوامل التي تم تحديثها وتلميعها لإعاقة تقدم شعوب الإقليم، مرتدة بها إلى ماضٍ وسيط يكتنفه الغموض وتلفه الغيمية، ماضٍ لم يزل منبعًا للجدل والخلاف برغم لا جدوى، بل ولا معنى التحقق منه. في هذه الحال، لا يبقى الماضي أساسًا للتيقن، كما يرنو الرجوعيون لذلك.
ولأن هذا الحبس الرجوعي هو رؤيا تتسم بالقسرية الموحدة التي تخترق الفرد بعمق منذ نعومة أظفاره، فإنه ينمو على نحو جماعي مع الجمهور منذ الوقت الذي ينشد فيه الأطفال في المدارس الابتدائية أمجاد ماضٍ متلاشٍ، على ذبذبة عصا مدير المدرسة وهو يقود أوركسترا الحناجر الصغيرة الغضة التي تهتف بأعلى الأصوات: "موطني.. موطني"، نحو السماوات، علها تسمع المنادين على الأرض، هناك لتحيل رؤية الأجيال إلى حقيقة، ولكن عندما يكبر الأطفال ينبغي أن لا ينسوا أهمية الحكايات والخرافات المنزلية التي سبق أن عدها الآباء والأمهات، عناصر جوهرية للتربية والتنشئة "الصحيحة" للأبناء الواعدين. وسوية مع دروس "الدين" و"التاريخ" التي تحفر عميقًا في هذه الأذهان الفتية، تشكل رسالة السلالة الفقاعات الخانقة الأولى التي تحيط بالصغار منذ بواكير وعيهم وتفكيرهم. بل إن الأكثر إسهامًا في صناعة الرؤيا الخيالية، يتبلور في وسائل الإعلام التي تحتكرها الدولة أو الفئات الاجتماعية المتنفذة لتشكل وتقوي الأبعاد الخيالية للماضي الفردوسي، منتجة كتائب من الحالمين الذين يقطنون المدن والقرى عبر وجود اجتماعي سائل وغير متيقن تختلط فيه الحدود درجة الضياع.