د. رجب بن علي العويسي:
في ظل ما يشهده العالم اليوم من تحوُّلات في مختلف ميادين المعرفة وثورة المعلومات، فإنه في المقابل يشهد تحديات فكرية، أسهمت التقنية والمنصات التواصلية في زيادة اتساعها وتدخلها في عمق الكيان البشري، ما نتج عنها العديد من المطبات على الواقع البشري، الأمر الذي تطلب وجود منظومة إعلامية تصنع التوازن لإيجاد مساحة أمان تستوعب هذه الاختلالات الفكرية وتحتويه، وتعمل على حسن إدارتها وضبط مصادرها، وتوجيهها لصالح البناء الإنساني، وتعميق فرص التضامن مع قضايا الإنسان اليومية، وفي المقابل أدَّى انسحاب الإعلام التقليدي المؤسسي من واجهة المنافسة، وحالة التراجع التي يعيشها في محتواه وهيكلته التنظيمية والإدارية وتعاطيه مع الأحداث المتسارعة إلى غلبة الإعلام الرقمي والمنصات التواصلية، الأمر الذي يضع الإعلام التقليدي المؤسسي الرسمي أمام محطات وجوبية للمراجعة والتصحيح.
وإذا كانت المنصات التواصلية تمثل اليوم الهاجس الأكبر للمجتمعات عامة، ولمجتمع الشباب بشكل خاص، لما تضمُّه من ميزات تنافسية، فإنها أصبحت صوت المواطن في نقل شجونه وهمومه ورغباته وطموحاتها، وأصبح لزاما على الحكومات التعاطي معه بكل مهنية واحترافية، وتبني وسائل واستراتيجيات أكثر قدرة على صناعة الحلول وإنتاج البدائل، وتحويل ما يطرحه المواطن من ثقافة مضادة (نطق الأفكار ورصد الأقلام) إلى برامج عمل واستراتيجيات أداء، على الرغم من أن نسبة الأمان التي يحققها الإعلام الرقمي في إيصال هذه الصورة النموذجية مع ما تريده الحكومات والأنظمة الرسمية أمر صعب التحقيق، الأمر الذي يستدعي اليوم أن يصنع الإعلام المؤسسي الرسمي من نفسه مساحة أوسع في التوأمة مع الإعلام الرقمي من جهة، والاستفادة من الميزات التنافسية التي يتسم بها الإعلام الرقمي من حيث سرعة النشر ومساحة الحرية والتأثير والاحتواء، وعليه فإن قدرة الإعلام المؤسسي على تبني دور الوسيط الفاعل في معادلة التغيير، والمؤثر في صناعة التوجُّهات واحتواء الأفكار وما تخطه الأقلام، أصبح ضرورة حتمية حتى يكتب له البقاء وقدرته على الاستمرارية في ظل المنافسة الشرسة التي يواجهها من الإعلام الآخر، ويضمن حضوره في فقه المواطن والمجتمع عامة، وأن ما يبثه من برامج إذاعية وتلفزيونية وتحليلات صحفية وغيرها تحظى بالقبول والاهتمام، وتجد آذانا مصغية وأعينا واعية، وأقلام تحافظ على استمرارية دوره، من أجل استمرار خطوط الإمداد عاملة، وخيوط التواصل مع الجمهور والرأي العام المجتمعي ممتدة.
على أن بروز العديد من الظواهر الفكرية السلبية بين أوساط الشباب وقصور الإعلام التقليدي المؤسسي في التعاطي معها، سواء المتعلقة بالإشاعات والمعلبات الفكرية الجاهزة والحركات التحريضية، ونزوغ بعض الإعلام عن مساره، بما حملته منابره ومنصاته من دوافع شخصية، ونوازع ذاتية، ومحاولة تشويه صورة الآخر المختلف، بما يبثه في برامجه من ظواهر التنمر والتعدي على الخصوصيات وسيادة الشعوب وتأجيج المذهبيات وصناعة لغة الكراهية وتعظيم ثقافة الاختلاف المؤدي للخلاف وغيرها، وفي المقابل ظهور إعلام مؤسسي آخر يعيش حالة من الهدر والفقد في ممارساته وأسلوبه، وحالة التضييق التي بدأت تتجه إلى عناصر الإعلام ومكوِّناته والعاملين فيه، كل ذلك أسهم اليوم في زيادة الفجوة الإعلامية، وقلل من حجم المساحة المرنة التي يستطيع من خلالها المجتمع في التعبير عن رأيه وإبداء وجهة نظره عبر مختلف الفنون الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية، الأمر الذي جعل من بيئة الإعلام بيئة طاردة للخبرات والكفاءات والتجارب والمبادرات، لقد دفعت هذه الإجراءات والقوانين والقرارات التي اتخذها الإعلامي التقليدي المؤسسي بما حملته من تعقيدات وتقييد للحريات أو ضبابية الصورة المأمولة من الإعلام أو حجم التغيير المتوقع أن تحققه رسالة الإعلامي، ومساحة الحرية الممنوحة له في قراءة الواقع وسبر أعماقه والخروج بمنتج فكري عملي يحظى بتقدير الجمهور ومتابعته واهتمامه بما يتداوله الإعلام التقليدي المؤسسي، وحالة الضغط التي يمارسها على عوامل الإنتاج المؤثرة، والعناصر النشطة الفاعلة في المشهد الإعلامي، دفعت الشباب إلى المنصات التواصلية والصفحات الشخصية.
وبالتالي أدت هذه التباينات والتقاطعات والتجاذبات مع الإعلام التقليدي المؤسسي، وفي المقابل، المساحة المتاحة للمجتمع وأفراده في الإعلام الرقمي، بالإضافة إلى ظهور الإعلام التقليدي الخاص المطوّر الذي بدأ يتجه إلى رفع سقف توقعات الجمهور فيه وإحسانهم الظن به، ومنح متابعيه وعبر منصاته مساحة أكبر من الحرية في التعبير عن الرأي، وإيصال رسالته للجمهور، والعمق في دراسة أولويات المواطن وهواجس الشارع العماني، والانتقال إلى تفاصيل الحالة، والخطوات التي اتجه إليها بتناوله جملة من الملفات الساخنة الاقتصادية والاجتماعية والإدارية خصوصا ما يتعلق منها بالباحثين عن عمل، والمسرحين من القطاع الخاص، وبيئة العمل والأعمال الوطنية وغيرها، وتحديد مواطن الضعف والخلل والقصور والإفصاح عنها في الممارسة اليومية، أدت إلى ثقة المجتمع إلى الإعلام الرقمي باعتباره الحلقة الأقوى في مسار التغيير، خصوصا في ظل الحضور القوي للشباب في هذه المنصات، وفي الوقت نفسه نتج عنها اتساع مساحة الثقافة المضادة والأفكار والأقلام المعاكسة، سواء في صورتها الصحفية أو الإذاعية أو التلفزيونية، والتي تحاول تناول صورة الواقع من زوايا مختلفة، تأخر أو أحجم عنها الإعلام التقليدي المؤسسي الرسمي، أو تناولها بشيء من الاستحياء، لتصنع المنصات لها حضورا أوسع، ومتابعين أكثر، تبع ذلك اتساع نطاق المؤثرين في المنصات التواصلية، وظهور موضة المشاهير، وما نتج عنها من محتوى معرفي يحمل لغة مضادة للمعتاد، قد تتناوله في إطار إيجابي، سمته النقد والتحليل والبحث في العمق والموضوعية والرصد واستقراء نبض الشارع، أو في إطاره الآخر من خلال تمجيد لغة السلبية والتنمُّر، والتذمر، وكثرة الشكوى، والإحباط وحالة عدم القبول للواقع.
أخيرا، يبقى نجاح الإعلام في تحقيق رهان التغيير والمنافسة وإثبات الجدارة في تعاطيه مع قضايا الساعة، مرهونا بحجم التغيير الذي يجريه على أدواته، وارتفاع سقف الطموحات في أهدافه، والروح الإيجابية التي ينفثها في خبراته وكفاءاته، والتأصيل الفكري المنهجي الموضوعي الذي يعززه في ثقافة الإعلام، وإيجاد روح التغيير في رسالته وبرامجه ومنتجه الإعلام، وأن ينطلق في توجُّهاته من تشخيص للواقع وحدس بالتوقعات، وفراسة بالمتطلبات، والانتقال إلى ميادين العمل للإفصاح عن واقع الأداء ومستجدات التحول، وجوانب التغيير الفعلية المتحققة، وقدرته على تحقيق رسالة تواصلية قادرة على رسم ملامح التغيير القادم، والمساحة من التقدير والاهتمام والثقة التي يضعها في الكوادر الإعلامية، والمساحة من المرونة التي يتيحها في تعبير المجتمع عن مجريات الحالة الوطنية بكل تفاصيلها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية وغيرها، مع المحافظة على استشعار الجميع لحدود هذا التعبير في ظل السياسة العامة للدولة، بالإضافة إلى إعادة هيكلة الخطاب الإعلامي الوطني ومحاور عمله وأساليبه وطرائقه والمفاهيم التي يتداولها، وبناء رصانة علمية منهجية في الممارسة الإعلامية تدير المشاعر وتحتضن الأفكار وتنمي الاتجاهات الإيجابية، فيتجه الإعلام لرسم خريطة بناء المواطن النموذج (قلبا وقالبا)، كما يتجه لجودة برامج وخططه ونضوج سياساته، وإعادة تنظيم موارده وتوجيهها لتوطين الكفاءة وتحسين آليات العمل الداخلية، وإعادة هيكلة القرار الإعلامي المؤسسي، وإعادة التوازن في منظومة الصلاحيات الممنوحة للإعلامي والمخرج والكاتب والصحفي والجريدة، فإن بقاء مساحة الحريات الإعلامية في إطارها المقنن والمنظم مع فتح المجال لها في التعبير عن الإرادة الإعلامية لديها بالطرق المناسبة والدخول فيها من مداخل متعددة، من شأنه أن يقلل حالة الامتعاض والتذمر والسلبية التي بات يعيشها الإعلامي ومؤسسات الإعلام الخاصة، ويصبح التقييد غير المبرر والضغط القسري وفرض سلطة الأمر الواقع على الإعلام والحد من الحريات الإعلامية من شأنه أن يولد ثقافات مضادات وصورة إعلامية أخرى تتقاطع مع الواقع؛ فإن ما يشهده واقعنا العماني اليوم من تقاطعات في الوصول إلى نقاط مشتركة في استثمار المساحة الإعلامية بمختلف فنون الإعلام، يؤكد الحاجة إلى مزيد من التناغم في المنظومة الإعلامية، وإيجاد روح تواصلية تفاعلية تصنع للإعلام المؤسسي قوة في ثقة المجتمع، وتضمن بأن المسار الإعلامي الناتج يعبِّر عن رؤية "عُمان 2040"، ويجسِّد روح التغيير الذي يجب أن يسري في تفاصيل العمل الإعلامي، في كل برامجه وخطواته وعلى مستوى المحتوى الإعلامي أو كذلك الإعلاميين من مذيعين ومعدي الأخبار والبرامج الإعلامية والكتاب والمحررين، بما يتوقع أن يسهم به في إنتاج صورة إعلامية نموذجية قادرة على تحقيق العالمية والوصول إلى درجة الاستحقاق، وفي الوقت نفسه تضمن احتواء هذه الثقافة وتخفيف لغتها، واستيعاب معطياتها ومشاركتها هذا المسار، وإشعارها بالحاجة لمثل هذه التحوُّلات في الروح الإعلامية وانتشال الواقع من كومة التحديات والممارسات الإعلامية المتكررة، والتثمير النوعي الجاد في مساحة الأمان الممنوحة للمواطن في التعبير عن رؤيته، بما تتطلبه من ضرورة تبني تشريعات واضحة تحفظ للإعلامي والصحفي والكاتب والمخرج والمؤلف والمذيع حقوقه، كداعم له ليؤدي رسالته بمهنية عالية، وأمانة وإخلاص، قارئا ومحللا وناقدا ومطورا ومفكرا محترفا، فهل سيعد الإعلام إنتاج واقعه بما يتناسب مع طبيعة المرحلة والحالة العُمانية، وبما يجسِّد روح التغيير في النموذج الإعلامي المعاصر؟ وهل ستفصح الفترة القادمة عن ميلاد جديد للإعلام العُماني يعيد تقييم أدواته وترقية مساراته وتوجيه برامجه؟