حامد مرسي:
يقول الحق سبحانه وتعالى:(واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيبًا)(النساء ـ1)، يقول ابن كثير في تفسيره: اتقوا الله بطاعتكم إياه الذي تتحالفون به واتقوا الأرحام، أي: خافوا أن تقطعوها ولكن بروها وصلوها،(إنّ الله كان عليكم رقيبًا): يراقب جميع أحوالكم وأعمالكم ويعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون، ويقول الشيخ محمد متولي الشعراوي ـ رحمة الله عليه ـ في تفسيره:(واتقوا الله): اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه، (الذي تساءلون به) أي: تتحالفون به وبالأرحام فيقول الإنسان لأخيه بحق الرحم الذي بيني وبينك أنا من أهلك وأنا قريبك وأرجوك أن تحقق لي هذا الأمر، (إنّ الله كان عليكم رقيبًا): يراقب خلقه وينظر إليهم ويرصد أعمال عباده فهو ليس بصير فقط بل ورقيب، والذي يتدبر الآية القرآنية يجد أن الحق سبحانه وتعالى ذكر أولاً التقوى وهى شيء مهم وهى الامتثال لأوامر الله وتجنب نواهي الله ثم ذكر بعدها صلة الأرحام، هذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن صلة الأرحام شيء مهم ولها ثواب كبير عند الله سبحانه وتعالى نظيره في ذلك الحديث الذي يبين أركان الإسلام، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(بُني الإسلام على خمس شهادة أن لا إليه إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة..) إلى آخر الحديث، فالصلاة ذكرت بعد الشهادة وهذا دليل على أهميتها ومنزلتها عند الله سبحانه وتعالى، وهذه الآية توضح أن صلة الأرحام واجبة وأن قطعها حرام.. ولكن من هم الأرحام؟ الأرحام هم أقارب الإنسان أمك وأبيك وأختك وأخيك وعمك وعمتك وخالك وخالتك ثم الأقرب فالأقرب لدرجة أن السنة بينت أن من الأرحام، ود أبيك أي صاحب أبيك وصاحبة أمك، ومعنى صلة الأرحام:إيصال كل خير ودفع كل شر بحسب الاستطاعة وعلى قدر الطاقة وتنوع صلة الأرحام، قد تكون بالمال إذا كان فقيرًا وقد تكون بالنصر والتأييد إذا كان مظلومًا وقد تكون بالزيادة والعبادة إذا كان مريضًا وقد تكون بالنصح إذا كان ذا جاه وسلطان، وقد تكون بالوعظ والإرشاد والتعليم إذا كان ضالاًّ ولا يصح للإنسان أن يقطع الرحم إلا في حالة واحدة وهى أن يكون ذا الرحم كافرًا وفاجرًا لا يجدي النصح ولا الوعظ، ويحدث الضرر بصلته على أن نستمر في الدعاء له بالهداية طالما كان حيًّا ومصاحبته بالمعروف كلما تيسر ذلك وهناك الأحاديث التي تدل على فضل صلة الأرحام منها أن الله عز وجل يقول في الحديث القدسي:(أنا الله الذي لا إله إلا أنا خلقت الرحم وشققت لها اسمًا من اسمي فوعزتي وجلالي لأصلنَّ من وصلها ولأقطعنَّ من قطعها ولا أرضى حتى ترضى).
الله عز وجل يقول:(أنا الله الذي لا إله إلا أنا خلقت الرحم وشققت لها اسمًا من اسمي..) فأنت تقرأ في سورة (الفاتحة): الرحمن الرحيم، ويقسم الله بذاته وجلاله أنه يصل من وصل الرحم ووصل الله للعبد مغفرة ورحمته وعفوه وبركته وتشريف له في الدنيا والآخرة ويقطع المغفرة والرحمة والعفو والبركة عن قاطع الرحم ورضاه، أي: أنّ الله على العبد متوقف على رضا أرحامه عنه ولا يرضى حتى ترضى تلك الرحم، ويوضح النبي (صلى الله عليه وسلم) أهمية الصلة، فيقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(لما خلق الله الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال لها: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى. قال: فذاك لك).
ولقد تعدت صلته (صلى الله عليه وسلم) لرحم أهله إلى مرضعته حليمة السعدية، حيث كان يبسط لها رداءه لتجلس عليه ويكرم وفادتها وكذلك فعل مع أخته من الرضاعة الشيماء، فصلة الأرحام تتحقق حتى ولو بأقل الأشياء، وأقل الأشياء السلام، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(صلوا أرحامكم ولو بالسلام)، وهى من أعظم القربات ومن أجلَّ الأعمال عند الله سبحانه وتعالى إذا كانت خالصة لله وغير مشوبه بأي غرض من الأغراض الدنيوية، والإنسان يجب عليه أن لا يرد الإساءة بالإساءة ولكن يرد الإساءة بالإحسان ولا يكن إمّعةـ كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(لا يكن أحدكم إمّعة يقول: إن أحسن الناس أحسنّا وإن أساءوا أسأنا ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن لا تسيئوا واعلموا أن ثلاثة من كن فيه أدخله الله الجنة أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عن من ظلمك)، ومما يؤكد أهمية صلة الرحم حتى ولو كانوا يسيئون للإنسان، جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال له: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال (صلى الله عليه وسلم):(أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح) (أي: المبغض المجافي سيء الطبع)، فإن الصدقة عليه تكون لها أجران أجر الصدقة وأجر القرابة، وصلة الأرحام من جملة الوصايا التي أمر الله بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال (صلى الله عليه وسلم):(أوصاني خليلي بتسع أوصيكم بهن الإخلاص في السر والعلانية والعدل في الغضب والرضا والقصد في الغنى والفقر وأن أعفو عن من ظلمني وأعطي من حرمني وأصل من قطعني وأن يكون صمتي فكرًا ونطقي ذكرًا ونظري عبرة).
ومن فوائد صلة الأرحام أنها تكفّر الذنوب وتذهب الهم، فلقد ورد في سنن أبو داود أن رجلاً جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال: إني أذنبت ذنبًا وإني أخاف الله، فهل من
توبة؟ فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم):(يا هذا ألك أم؟ قال:لا. فقال: هل لك من خالة؟ قال: نعم. فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): اذهب إليها فبرّها وأحسن إليها وصل ما تقطع من رحمها يغفر الله ذنبك ويذهب همّك ويكّفر عنك كل خطاياك).
وصلة الأرحام تزيد في العمر وتبارك في الرزق، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(صلة الرحم وحسن الخلق يزيدان في العمر ويعمران البيوت)، وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(من سرّه أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه).. هذا والله أعلم .
* إمام مسجد بني تميم بعبري