د. أحمد مصطفى أحمد:
تتصاعد الأزمة الأوكرانية بوتيرة متسارعة، رغم اللقاءات الأميركية ـ الروسية بشأن خفض التوتر والحيلولة دون أي تطور عسكري في ذلك البلد بأوروبا الشرقية المتاخم للحدود الروسية. النغمة السائدة في الصحافة الغربية أن روسيا تحشد عسكريا لغزو أوكرانيا، بينما الروس يقولون إن الغرب وحلف شمال الأطلسي (الناتو) يستغلون أوكرانيا لتهديد موسكو. حسب تقارير أميركية وغربية فإن روسيا حشدت أكثر من مئة ألف من قواتها على حدودها مع أوكرانيا استعدادا لغزوها. لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقول إن بلاده لا تنوي غزو أوكرانيا، لكنها لن تتوانى في الدفاع عن أمنها القومي الذي يهدده احتمال انضمام أوكرانيا لحلف الناتو أو "تكديس" الناتو للصواريخ التي يمكن أن تطول موسكو في إستونيا وليتوانيا.
في القمة الروسية ـ الأميركية العام الماضي، هدد الرئيس الأميركي جو بايدن نظيره الروسي بعقوبات صارمة على بلاده إذا حاولت غزو أوكرانيا. لكن روسيا تخضع لعقوبات دولية وغربية منذ سيطرت على شبه جزيرة القرم التي كانت جزءا من أوكرانيا في عام 2014. وحتى من قبل ذلك، هناك عقوبات أميركية وأوروبية على روسيا لأسباب مختلفة منها قمع المعارضة وحقوق الإنسان وغيرها. ولا شك أن موسكو تنظر إلى العقوبات على إيران التي وصلت إلى مستوى غير مسبوق في صرامتها، ومع ذلك لم تؤدِّ إلى انهيار طهران.
لا يعني ذلك بالضرورة أن روسيا عازمة فعلا على غزو أوكرانيا وضمها. فإذا كان سكان شبه جزيرة القرم يعدون أنفسهم من أصل روسي عرقيا أكثر منهم أوكرانيين فإن بقية الشعب الأوكراني ليست كذلك، ولن تقبل باحتلال روسي على أي حال. وتلك كلفة عالية على موسكو تفوق أضرار أي عقوبات غربية. الأرجح إذًا أن روسيا إنما تريد تغيير النظام في كييف، وفرض حكومة موالية لها وليس للغرب ومعادية لها. يتسق ذلك أيضا مع طموحات بوتين لاستعادة قوة روسيا، خصوصا وأن في ذهنه ما فعلته أميركا والغرب بتغيير أنظمة في دول عدة وأحيانا بالقوة العسكرية المباشرة.
في الأيام الأخيرة أعلنت واشنطن سحب عائلات دبلوماسييها من كييف، ووضعت آلافا من جنودها على أهبة الاستعداد لاحتمال إرسالهم إلى أوروبا. وتستعد بريطانيا لتحذو حذو واشنطن بإجلاء موظفيها غير الأساسيين من بعثتها الدبلوماسية لدى أوكرانيا. وتبدو الأجواء مثل أجواء حرب قادمة أكثر منها أوراق ضغط في مفاوضات بين روسيا والغرب. ونتيجة تصاعد التوتر بشأن أوكرانيا هوت مؤشرات الأسواق الرئيسية في العالم، المضطربة أصلا لتوقعها بدء البنوك المركزية في الاقتصادات الرئيسية رفع سعر الفائدة.
لكن، يبدو أن أوروبا ليست كلها "على قلب رجل واحد" في موقفها من الأزمة الأوكرانية وتختلف بعض دولها مع التوجُّه الأميركي البريطاني. ليس فقط لأن أوروبا تعتمد بشكل كبير على الغاز الطبيعي الروسي، الذي يمر جزء منه عبر أوكرانيا وآخر عبر بولندا، وإنما لأن أعضاء الناتو ليسوا جميعا مستعدين لإرسال قواتهم لمحاربة الروس في أوكرانيا. تلك الدول تأخذ في الاعتبار الشعور العام لجماهيرها. فلا يتصور أن الإسباني أو حتى الإيطالي، ناهيك طبعا عن السويدي أو النرويجي، سيكون متحمسا للذهاب إلى أوكرانيا للقتال وهو لا يرى تهديدا مباشرا لوطنه ومصالحه.
لكن إدارة بايدن جعلت هدفها منذ تولِّيها الحكم بداية العام الماضي التصدي للصين وروسيا، وتستهدف بناء تحالف غربي قوي بعد فترة اضطراب علاقات واشنطن بحلفائها خلال حكم الرئيس السابق دونالد ترامب. وبالتالي فإن التصعيد في أوكرانيا لا يتوقف فقط على المطامع/المخاوف الروسية، وإنما أيضا على الاستراتيجية الأميركية ـ الغربية. فماذا عن بقية العالم؟
أولا: هذا التوتر الجيوسياسي يمكن أن يدفع الأسواق نحو مزيد من الهبوط، وربما يكون ذلك ليس بالسوء الذي يبدو؛ لأنه هبوط يمتص الغليان الذي شهدته الأسواق في العامين الأخيرين، وبالتالي يحول دون انفجار فقاعة تقود لانهيار. كذلك ستواصل أسعار الطاقة، خصوصا الغاز والنفط، الارتفاع ورغم أن ذلك يؤدي إلى استمرار ارتفاع التضخم، إلا أنه سيعني أيضا مزيدا من رفع أسعار الفائدة لمكافحة التضخم، وبالتالي يعاد ضبط "السيولة" التي ميزت عامي وباء كورونا.
ينعكس ذلك على منطقتنا بشكل مباشر وغير مباشر. صحيح أن دولنا العربية ليست أعضاء في حلف الناتو ولا تربطها التزامات عسكرية مع طرفي أزمة أوكرانيا (روسيا والغرب)، لكن هناك مصالح لبعض الدول خصوصا تلك المنتجة والمصدرة للغاز. فقد بدأت الولايات المتحدة بالفعل التفاوض مع قطر على توفير إمدادات الغاز الطبيعي المسال لأوروبا في حال تصاعد أزمة أوكرانيا وتعطل إمدادات الغاز الروسي لأوروبا. وفي حال التصعيد، تستفيد إيران أيضا بزيادة صادراتها من الغاز لآسيا مع تحول شحنات البيع الفوري لأوروبا بعيدا عن آسيا.
وبغضِّ النظر عن نهاية الأزمة، بتصعيد عسكري أو حلول دبلوماسية، فإن تأثيرا أجنبيا مهما لها يطول بلدانا مثل مصر والجزائر. فلا شك أن دول أوروبا المعتمدة بشدة على واردات الغاز الطبيعي من روسيا ستحول اهتمامها إلى غاز المتوسط لدى مصر وغاز الصحراء لدى الجزائر. ورغم أن هناك قضايا كثيرة أكثر أهمية على أجندة القمة المصرية الجزائرية هذا الأسبوع، ضمن زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون للقاهرة ولقائه نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، إلا أنه من غير المستبعد أن تكون أزمة أوكرانيا على الطاولة ولو من باب زيادة التعاون المصري في مجال إنتاج الغاز الطبيعي وتسييله ونقله إلى أوروبا.