د. جمال عبد العزيز أحمد:
.. فالله في عليائه، وفي سمائه، هو العالم بكل شيء، نعم، هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام، وكان في قدرته خلقها ب(كن)، وهو كذلك الذي يبدِّل آيةً مكان آية، أو ينسخ آية بأخرى، فهو تعليم لنا ـ نحن البشر ـ أن نقبل من غيرنا تعديلَه، ما دام يُصلِح حياتَنا، فالله قادر، ومقتدر، وقدير على إنزال الأحكام الشاملة، الدائمة، الكاملة، الجامعة، المانعة التي لا تحتاج إلى تبديل مدى حياة الكون كله إلى أن يرث الله الأرضَ ومَنْ، وما عليها، لكنه ـ في عليائه ـ علَّمنا أن نكونَ وقَّافين عند الحق، مبتغين الصلاح، وأن نقبل التعديلَ، والتبديل، والتكميل، والإصلاح، فعدم الوقف على الكلمة، ومواصلة التلاوة، والالتزام بالوقف الممنوع، هو الذي وسَّد المعنى مكانتَه، وأنزل المضمونَ الكامل منزلتَه، وأرسى مقامَه، ووضع معناه التام بين ناظرَيْنا، وأفهمنا كمالَ القدرة، وعظمةَ المقصد، وقدسيةَ التبديل، وجلالَ التغيير.
وبهذا تكون الوقفات العشرة في تلك السورة قد اكتملتْ، ووضحتْ، ولكننا هنا نستنبط تلك الضوابطَ الفائتة في كل وقف، ونجمعها في ختام هذه اللقاءات الثمانية لتكون ـ كما سلف ـ تذكرةً، وتجميعًا للقواعد الحاكمة لقضية الوقف الممنوع في كتاب الله، من خلال دراستها في سورة النحل كاملةً، وشرحها، وبيان معانيها، وارتباطها بسياقاتها التي وردتْ فيها، ومن تلك الضوابط التي وردت في الوقفات العشرة الممنوعة في تلك السورة ما يأتي، نعدده وفق ترتيب وروده في السورة:
ـ أنه لا يوقف على القول دون المقول، فلا يجوز الوقف على الفعل:(قال)، ولا (يقول)، ولا “قيل”، ولا مادة القول كاملة: اسما، ولا فعلا حتى نستوفيَ مقول القول؛ وذلك لشدة الارتباط بين الفعل(قال)، وجملته، أو بين القول، والمقول، والذي مثَّلتْه الآية رقم (24)، وفيها يقول الله تعالى:(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، وفي الآية رقم (32) وفيها:(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، ولا يوقف كذلك على جملة الشرط حتى تستوفي أركانها الثلاثة: أداة الشرط، وجملة الشرط، وجملة الجواب؛ حتى يكملَ المعنى، ويتمَّ المرادُ، وتكتملَ الدلالةُ كما في الآية السابقة (24).
ـ وأنه لا يوقف على المعطوف عليه حتى يُؤتَى له بقلبه، وعقله، وهو المعطوف، لأن جملة العطف بتمامها كالشيء الواحد، لا يؤتى ببعضِه دون بعضِه، فلا يُؤْتَى بالمعطوف عليه حتى نستوفيَ المعطوفَ بعاطفه، وهكذا في كلِّ أحرفِ العطف على كثرتها، وقد اتضح ذلك في الآية رقم (25)، حيث يقول الله ـ جلَّ جلاله ـ فيها:(لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ)، وكما بدا أيضًا في قوله تعالى في الآية رقم (7) التي اعتُبِرت في أحد وجهيْها، أو وُجِّهَتْ في بعض الأعاريب على أنها واو عطف، وهي:(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وكما ورد كذلك في الآية رقم (80) التي جاء فيها قوله تعالى:(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ).
ـ وأنه كذلك لا يوقف على الحال حتى يؤتَى بجملتها كاملةً، وهي: عامل الحال، وصاحب الحال، والحال، وإن تعددت في تركيبها؛ لأنها ذات دلالة واحدة، وتبين هيئة حصول الفعل، ولحظة حدوثه، فلا بد من استيفاء كلِّ جملتها بأركانها الثلاثة، وإن تعددتِ الحال ـ كما سبق ـ وجب المجيءُ بها مكتملة من غير نقص؛ لتعطينا رؤيةً شاملة عن حصول معناها في وقتها، وسياقها، ووضعها في هذه التراكيب، وقد ظهر هذا في قوله تعالى في الآية رقم (32) التي سبقتْ، وهي:(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، واتضح كذلك في الآية رقم(57)، وفيها:(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ)، وكما وضح في الآية (76) المتقدمة على اعتبار الواو يمكن أن تكون حالية لا عاطفة:(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
ـ وأنه من ضوابط الوقف نحويا أنه لا يُوقَفُ على القسم دون المقسَم به، فالقسم والمقسم به كالجملة الواحدة ذات الدلالة الكاملة، وجملة القسم بأركانها الثلاثة:(حرف القسم، والمقسَم به، والمقسَم عليه) كالنفَس الواحد، يتنفسه المرء دفعة واحدة، وهو حقًّا ذلك المعنى الكليُّ، المترابطُ، المتماسكُ والذي يكون التماسك فيه والترابط والتلاحم والتداخل أقوى ما يكون، وقد ظهر هذا في الآية رقم(38)، وفيها يقول الله عز وجل:(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَ‍قًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، كما لا يوقف على الجملة الاعتراضية، حتى تستوفي معها الجملةُ الأساسيةُ (شرطية أو فيها عطف أو مقول قول) أركانَها الإسناديةَ الأصليةَ، وأنه ليس معنى أنها جمل اعتراضية أنها لا وزن لها، وأنه يمكن تجاوزها ـ كما سلف القول ـ أو أنه يجوز الوقف عليها دون استكمال الكلام بعدها، وقد اتضح ذلك في الآية رقم(101) التي أدَرْنا عنها الحديثَ في هذا اللقاء، ووقفْنا طويلا أمام معطياتها، ودلالاتها، وسبرْنا غورَها، ووقفتْنا على جليل مبناها، وجميل قيمها، وجليل معناها، وبُعْد مغناها، وسامي وسامق مرماها، وكذا كلُّ آيِ الكتابِ العزيزِ.
ـ ولا يوقف على المعلَّل دون التعليل، أو على النتيجة دون ذكْر حيثياتِها، وقراءة أسبابها، ولا على السبب دون عواقبه، وأهدافه؛ لنتعلم من ربنا كيف نصوغ حياتنا، وكيف نمضي في أمورنا، وأن كل شيء مسبَّب، وكلُّ نتيجة مبنية على أسسٍ، وأسبابٍ، كما ظهر ذلك في الآية رقم(78) وفيها يقول الله تعالى:(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
فهذه هي الوقوف العشرة الممنوعة في سورة النحل، وتلك هي ضوابطها النحوية، ومعانيها الدلالية، وقيمها الإيمانية، وهذا هو ما رمت إليه من قيم، وأحكام، قد وقفنا عليها شرحًا وبسطًا، ثم تلخيصا، وتوضيحًا؛ لتكون دليلا على غيرها، وشارةً توضِّح مثيلاتِها، وهُدًى يهدي القراءَ، والحفاظَ، والتالين للكتاب العزيز، والمعلمين، والمتعلمين للقرآن الكريم، ولوقفاته الممنوعة، والله أسأل أن يبصرنا بجمال، وجلال، وكمال، وبهاء، وصفاء، وجلاء كتابه الكريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.