حامد مرسي :
مازال الحديث مستمرًا عن الأرحام، والمعنى الإجمالي لهذين الحديثين أن الرجل صاحب الأخلاق الطيبة الحسنة مع الناس والرجل الذي يصل أرحامه وأقربائه يوسع الله لهما في أرزاقهما وبيوتهما تكون عامرة بكل الخيرات ويزيد لهما في أعمارهما. ويمكن أن يسأل سائل هنا سؤالاً ويقول: إنني أسلم واعتقد أن الله عز وجل يوسع في الرزق لصاحب الخلق الحسن والواصل للرحم ولكن يؤخر له في الأجل فهذا الحديث يتصادم مع آية صريحة في القرآن الكريم:(فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)(الأعراف ـ 34)؟ فنقول ردًّا على هذا السؤال: إنه لا يوجد تصادم بين الحديث والآية القرآنية ولكن ممكن التوفيق بين الحديث والآية أن بعض العلماء فسروا الزيادة في الحديث بالبركة في العمر وليست زيادة حقيقية ولكن قال البعض أن الزيادة في الحديث زيادة حقيقية بمعنى أن الله عز وجل عنده كاتبين اللوح المحفوظ وأمّ الكتاب، اللوح المحفوظ كتاب عام وأم الكتاب كتاب خاص، اللوح المحفوظ فيه محو وإثبات، أما أمّ الكتاب لا محو فيه ولا إثبات، وعلى هذا لو أنّ الله كتب في اللوح المحفوظ أن زيد يعيش ستين عامًّا وكتب في أمّ الكتاب أنه لما وصل أرحامه يعيش سبعين عامًا فإن الذي يحدث أن الله عز وجل يمحو الذي هو في اللوح المحفوظ ويثبت الذي هو في أمّ الكتاب وهذا يصدقه قول الله عز وجل في سورة الرعد:(يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)(الرعد ـ 39)، وإذا أُبتلي الإنسان بأرحام غير واصلين له ويجهلون عليه ويسيئون إليه فماذا يصنع معهم؟، جاء رجل يسأل النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال:(إني لي أرحام أصلهم وهم يقطعوني وأحسن إليهم وهم يسيئون إليّ وأحلم عليهم وهم يجهلون عليّ فماذا أفعل؟ قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): الزم إحسانك إليهم والله إن كنت صادقًا فيما تقول كأنك تسفهم المل أي: النار ولا يزال معك معينًا وناصرًا من الله ما دمت على ذلك.
وصلة الأرحام من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى، وقطيعة الأرحام من أبغض الأعمال عنده سبحانه وتعالى، فقد ورد في السنة:(أن رجلًا أتى من قبيلة خثعم وقال: يا رسول الله وهو مع نفر من أصحابه فقلت: أنت الذي تزعم أنك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: فقلت: يا رسول الله أيُّ الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الإيمان بالله. قلت: يا رسول الله ثم بعد، قال: صلة الأرحام. قلت: يا رسول الله ثم بعد، قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قلت: يا رسول الله وأي الأعمال أبغض إلى الله؟ قال: الإشراك بالله. قلت: يا رسول الله ثم بعد، قال: قطيعة الأرحام. قلت: يا رسول الله ثم بعد، قال: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف). فالإنسان يصل أرحامه ويعطي لأرحامه الفقراء المال إذا كانوا فقراء ومساكين ويفضلهم على غيرهم من سائر الناس لأن إعطائهم لهم هذا المال له أجران أجر الصدقة وأجر القرابة، ولن يقبل الله من إنسان صدقة وله أقارب فقراء ويفضل غيرهم عليهم، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(والذي بعثني بالحق لا يقبل الله صدقة من رجل وعنده قرابة محتاجون لصدقته ويصرفها إلى غيرهم، والذي نفسي بيده لا ينظر الله إليه يوم القيامة)،ويقول الله تعالى:(وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض)(الأنفال ـ 75).
ولم يقتصر الإسلام على أن يدعوا أبناءه إلى صلة الأرحام الأحياء فحسب بل أنه تجاوز ذلك على صلتهم أموات في قبورهم، فقد ثبت في السنة أن رجلًا كان جالسًا عند أخته وهى تجود بروحها عند سكرات الموت، فكان يعظها ويذكرها ويشرح صدرها إلى لقاء الله، فقالت له: جزاك الله عني أحسن الجزاء، وأثابك أجزل المثوبة، ولقد وصلت رحمي وأنا حيّة فلا تقطعه وأنا ميتة والآخرة أحوج إلى البر من الدنيا فلا تنسى صلتي بدعائك لي.
وقاطع الرحم لا تنزل عليه رحمة الله عز وجل، ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه (كان جالسًا ذات يوم مع أصحابه في المسجد يعظهم ويذكرهم ويدارسهم العلم والقرآن فسكت عن الحديث لحظة ثم قال لأصحابه: لا يحضرّن مجلسنا اليوم قاطع رحم فإن رحمة الله عزوجل لا تنزل على قاطع لرحمه، وكان في مجلس رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فتى من الأنصار وكان قاطعًا لرحمه فنالت منه هذه الكلمة وحركت في قلبه عوامل الشفقة والرحمة وأسالت في نفسه منابع الرأفة والإحسان فقام من مجلسه فورًا وأتى خالته وكان بينه وبينها شيء فاستسمحها وسألها المغفرة فاستغفرت له وسامحته في كل مكان لديه من حقوق لها، ثم عاد إلى مجلس الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو طيب النفس، رضي القلب، ناعم البال، فرحب به الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأثنى عليه وأخذ يدعو له: وصلك الله كما وصلت رحمك). أيها الأخوة الأحباب.. بعض الأرحام يكون بينهم خلاف على أمور دنيوية كالميراث مثلًا فلنعمل جاهدين على أن ننهي هذه الخلافات بالتسامح والرجوع إلى الحق والبادئ بذلك خير من غيره، فالمسلمان إذا التقيا وسلَّم أحدهما على الآخر أنزل الله عليهما رحمة قدرها مائة جزء فأعطى البادئ بالسلام تسعة وتسعين جزءًا وأعطى لمن ردَّ السلام جزءًا واحدًا، وتعلّم أنه لابد أن يكون متمسكين بصلة الأرحام فإن الأسرة المتماسكة بصلة الأرحام تشملهم البركة في حالهم ومآلهم وتعمهم السعادة والبركة بعكس الأسر المتقاطعة عاقبة الذل والعار والخراب والدمار، وما أحسن ما قاله الرسول (صلى الله عليه وسلم) في صلة الرحم، أوصى الشاهد من أمتى الغائب منهم ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة أن يصلن الرحم وإن كانت على مسيرة سنة فإن ذلك من الدين، صلوا أرحامكم ولو بالتسليم .. هذا والله أعلم.
✽ إمام مسجد بني تميم بعبري