محمود عدلي الشريف:
الإخوة الأعزاء:.. فلا يزال الحديث مستمرًا حول نوع غير مألوف يصرع به الرجال لا بسيف ولا بمدية إذا استسلموا له وهو الطمع المذموم ـ نعوذ بالله منه ـوهنا سؤال يطرح علينا نفسه ألا وهو: ما هو الطمع؟ وهو ذات السؤال ذكره الشيخ الشعراوي وأجاب عنه: فقال:(ما هو الطمع؟ الطمع هو رغبة النفس في شيء غير حقها وإن كان محبوبًا لها، والأصل في الإنسان العاقل ألا يطمع إلا في حقه، والإنسان أحيانًا يريد أن يرفه حياته ويعيش مترفًا ولكن بحركة حياته كما هي. نقول له إذا أردت أن تتوسع في ترفك فلابد أن تتوسع في حركة حياتك، لأنك لو أترفت معتمدًا على حركة حياة غيرك فسيفسد ميزان حركة الحياة في الأرض، أي: إن كنت تريد أن تعيش حياة متزنة فعش على قدر حركة حياتك، لأنك إن فعلت غير ذلك تسرق وترتش وتفسد، فإن كان عندك طمع فليكن فيما تقدرعليه) (تفسير الشعراوي 1/ 405).
وقد توقف بنا الحديث عند النصوص النبوية الشريفة التي تحذرنا من هذا الخلق الذميم، واستزادة من تلك الأنوار النبوية المباركة نستكمل معكم بتوفيق الله عزوجل وأول ما نستهل به ما جاء في (صحيح مسلم 4/ 2197):(عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ:”أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ، مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا ... إلى أن قال “قَالَ: وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ، قَالَ: وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ، الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا،وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ، وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ “وَذَكَرَ” الْبُخْلَ أَوِ الْكَذِبَ وَالشِّنْظِيرُ الْفَحَّاشُ”، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو غَسَّانَ فِي حَدِيثِهِ:”وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ”،جاء في (البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج 44/ 72):(قال القاري: قوله: “والخائن”: الذي لا يخفى له طمع،”وإن دق إلا خانه”: هو إغراق في وصف الطمع، والخيانة تابعة له، والمعنى أنه لا يتعدى عن الطمع، ولو احتاج إلى الخيانة،بل هو إغراق في وصف الطمع، والخيانة تابعة له، ولهذا قال الحسن البصريّ: الطمع فساد الدين، والورع صلاحه، قال القاضي: وَيحْتَمِل أن يكون خَفِي من الأضداد، والمعنى: لا يَظهر له شيء يُطمع فيه إلا خانه، وإن كان شيئًا يسيرًا،ولِمَ لا؟ والطمع يشعر صاحبه دوما بالفقر ويُذهب البركة من بين يديه، فالطمع يقضي على الرضا والقناعة كما تأكل النار الهشيم، ولهذا ما أبلغ ما جاء في كتاب “الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (2/ 50): (عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا ذِئْبَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ”،قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ: فَهَذَا مَثَلٌ عَظِيمٌ جِدًّا ضَرَبَهُ النَّبِيُّ ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ لِفَسَادِ دِينِ الْمُسْلِمِ بِالْحِرصِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ فَسَادَ الدِّينِ بِذَلِكَ لَيْسَ بِدُونِ فَسَادِ الْغَنَمِ بِذِئْبَيْنِ جَائِعَيْنِ ضَارِيَيْنِ بَاتَا فِي الْغَنَمِ قَدْ غَابَ عَنْهَا رِعَاؤُها لَيْلًا، فَهُمَا يَأْكُلَانِ فِي الْغَنَمِ وَيَفْتَرِسَانِ فِيهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَنْجُو مِنَ الْغَنَمِ مِنْ إِفْسَادِ الذِّئْبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ إِلَّا قَلِيلٌ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ أَنَّ حرصَ الْمرءَ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ إِفْسَادٌ لِدِينِهِ، لَيْسَ بِأَقَلَّ مِنْ إِفْسَادِ الذِّئْبَيْنِ لهذه الْغَنَمِ)(اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون 4/ 170)،قال عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه:(تعلمن أنّ الطّمع فقر، وأنّ اليأس غنى)، وقال عليّ ـ رضي الله عنه:(ما الخمر صرفاًبأذهب لعقول الرّجال من الطّمع)،وقال ابن عباس:(قلوب الجهال تستفزها الأطماع، وترتهن بالمنى، وتستغلق)، واجتمع كعب وعبد الله بن سلام، فقال له كعب:(يا ابن سلام: من أرباب العلم؟ قال: الّذين يعملون به. قال: فما أذهب العلم عن قلوب العلماء بعد أن علموه؟ قال: الطّمع، وشره النّفس، وطلب الحوائج إلى النّاس) (المستطرف من فن مستظرف) لـ(الأبيشيهي ـ ص 98).
ومن أجمل من ورد في ذم الطمع ما قيل:(من اتكلَّ على مخلوق مثله ذل)، فكفاه الطمع بما يناله من إطلاع قلبه، وتشتت همه وذله ومسكنته، فقد اجتمع عليه أمران: ذل في الدنيا، وبعد من الله عز وجل بلا ازدياد في رزقه ذرة واحدة، وقال بعضهم: لا أعرف شيئًا أضر من الطمع، ولا أخرب للقلوب، ولا أذل لها، ولا أظلم ولا ابعد لها، ولا أشد تشبيثًا لهممها،لأن الرجل إذا طمع في مخلوق مثله، لا يملك ضرًّا ولا نفعًا، ولا عطاء ولا منعًا، فجعل ملك الملوك لمملوكه، فأنى يكون له ورع، فلا يتحقق ورعه حتى ينسب الأشياء إلى مالكها عز وجل، ولا يطلبها من غيره.وقيل:(الطمع له أصل وفرع، فاصله الغفلة، وفرعه الرياء والسمعة والتزين والتصنع، وحب إقامة الجاه عند الناس، لا يخطر على قلب مؤمن شيء من الطمع ويساكنه غلا لأجل كمال البعد عن الله عز وجل، حيث طمع في مخلوق مثله، وهو يرى أن مولاه مطلع عليه ثم لم يحجزه من ذلك) (تحت راية القرآن، ص: 65)،(فيا من تنظر إلى ما في أيدي الناس وتطمع أن تأخذ كل شيء فهل تعلم أن هذا الطمع مذمومًا، وما الطمع المذموم إلا أن يكون في طلب الدنيا وجمع المال، أو في سلطة أو منصب، أو في المأكل والمشرب والملذات)(موسوعة الأخلاق الإسلامية ـ الدرر السنية 2/ 311، بترقيم الشاملة آليا)، وما ذلك إلا ظل زائل ومتاع من الدنيا قليل، فلنتسلح بالإيمان فهو الأمان، ولنقتدي برسولنا العظيم فقد كان النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) يستعيذ من الطمع والجشع، حيث قال كما وردعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: لَا أَقُولُ لَكُمْ إِلَّا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: كَانَ يَقُولُ:”اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ، وَالْبُخْلِ، وَالْهَرَمِ، وَعَذَابِ، الْقَبْرِ اللهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا” (صحيح مسلم 4/ 2088). ومما يقوي إيمانك إخلاصك لله تعالى، يقول صاحب كتاب (عقيدة المسلم في ضوء الكتاب والسنة 2/ 601): (عدم الطمع فيما في أيدي الناس، فإن الإخلاص لا يجتمع في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما في أيدي الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس مما في أيدي الناس، ويسهِّل ذبح الطمع العلم يقينًا أنه ليس من شيء يُطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره، ولا يُؤتي العبد منها شيئًا سواه).. فلنرضى بما قسم الله لنا ولتملأ أعيننا الحلال من الرزق، ولنشكر الله تعالى علة نعمه التي لا تعد ولا تحصى.