تتطاير خصلات من شعرك الحريري، كلما هبت نسمة تلقاء القلعة، تذكر الناسين أن ثمة ياسمينة خلف الجدر، توارت عن الأعين لا الأرواح، قصة حب عفيف، لم تكتمل، قلبان التقيا وافترقا، لكن حكاية الريح لا زالت تروى، أما الملك فقد عاش دهرا، وعمر طويلا، فسطر شعراء البلاط قصائد عصماء في مديحه.. خاض البحار وقهر الأمصار وتغلب على أعدائه الأشرار والأخيار.

******

قلوب النساء صناديق مقفلة، قناديل مضيئة، فراشات تطير، والأميرة الجميلة تتربى منذ الصغر، وسط قيد وحصار، لا خروج من القلعة، لا دخول للغرباء، لا ينبغي أن تقع عليها عينا رجل، سوى أبيها الملك، والوصيفات يتحدثن أمامها عن القرى الوديعة، عيون الماء، بساتين النخيل الباسقة، الجبال الشماء، عن النبات الذي يهب النخلة زرعها كل عام، وعن الرجال.

******

-الرجال!!.. وما الرجال؟؟
في حجرتها والوصيفة الأقرب، تمشط لها شعرها، جلست تصغي لما يشبه السحر، سيدتي الرجال خلق من خلق الله، عجيب، يختلف عنا تماما.. لهم أصوات كصهيل الخيل، الواحد منهم قوي كالثور، أجسادهم في خشونة جذوع الأشجار، لكنهم عندما يتلطفون بنا، وغالبا ما يفعلون، تنساب أنفاسهم ناعمة دافئة، ويستحيلون شعراء، بأعذب ما يروى من كلام، إن حياتنا بدونهم محض هباء.. آه العفو، العفو يا سيدتي، لم انتبه لما قلت.

******

فقط عندما تغيب الشمس، يسمح للأميرة الحبيسة أن تتجول في فناء جناحها القصي بصحبة الوصيفات، وحراسها من النساء، أخذت تناظر النجوم والقمر، تتلمس جذوع الشجر، تصيخ السمع إلى صهيل الخيل، ينساب من بعيد، وتتفكر في الرجال، أَكُلُّ الرجال يشبهون أبي الملك، بعمامته الكبيرة، وعباءته الموشاة، ببطنه الواسعة، ولحيته البيضاء؟، لماذا يمنعني من الخروج، لماذا لا يدعني أغادر هذا السجن، لأرى العالم، وصيفاتي أكثر سعادة وحرية مني، يمرحن بين الأفلاج والقرى والنخيل، رأين الماء العذب المنساب من عيون الجبال، وعرفن الرجال.

******
عندما يصل إلى القلعة السجن في هيبته الملكية، تتزلزل الأرض من تحت قدميه، فما أن ينتصف الشهر، حتى ينزل من حصنه الأحمر المهيب في عاصمة البلاد، ويزحف في كتيبة صغيرة قوية من الحرس الأشداء، يترجل عن حصانه الأسود عند البوابة، يترك حرسه ويتقدم ماشيا وحده، فيؤدي الحرس النسائي تحية التعظيم، وعندما يتجاوز الدهليز، تغلق خلفه الأبواب، فيصبح الرجل الوحيد في قلعة النساء، ومنذ تلك اللحظة يحل الصمت التام، فلا تسمع إلا همسا، يدخل على الأميرة، يتعانقان عناقا فاترا، يتبادلان أحاديث معتادة، رتيبة، يسمح للأميرة أن تحدث الملك في أي شأن، عدا الخروج من القلعة، هذا الأمر يزعج الملك ويغضبه، يجعله ينقطع عن الأميرة لشهور، لذا تعلمت السكوت، وعدم النواح والاكتفاء بالكلام المباح، يجالسها لساعة من زمان ثم يغادر المكان.

******

لن يسمح للرجال الخبثاء أن يروا درته النفيسة، لن تقع أعينهم الطامعة في ملكه عليها أبدا، لم يرزق ولدا ذكرا يخلفه، لكنها إن تزوجت يوما.. قد يطمع زوجها في ولاية العهد، ويزيله عن العرش، أخبره العرّافون، أن آية ملكه، أنه سيعمر مائة عام، ويفتح ألف مدينة، ويقهر كل عدو، لكن نهايته المحتومة على يد الرجل الذي سيعشق ابنته، إذن فلتمنع عن مخالطة الرجال، كيلا يقع المحظور.

******
أفاق من نومه مذعورا، ذات ليلة، حلم مخيف، كابوس مرعب، كاد أن يقضي عليه، من هذا الثور الأحمر الذي رأيته يحرث في أرضي، ويتجرأ على صرعي ونطحي بل وعض لساني، وأنا الملك، أرسل في طلب مفسر الرؤى والأحلام.. وسرد الحلم عليه، انعقد لسان المفسر، امتقع لونه، غشيته سحابة هلع.. لم يقو على الكلام، وعندما زجره مولاه، حاول أن يعتذر عن المهمة، فازداد الرائي قلقا وانفجر غاضبا: لتخبرني بتأويل رؤياي أو لآمرن بقتلك الساعة، طلب المفسر الأمان، وأن يفسر الرؤيا في خلوة ثاني اثنين، وافق الملك على مضض وليس من شيء أكره إليه من أن يشرط عليه، الثور يا مولاي غـ..غــــ.. غلام شاب قد.. قد يحرث في.. في قصر مولاي، ولعله يجالس الأميرة ابنتكم، ويرشف من.. من... استل الملك الحسام وأداره نصف دورة، فوقع الرأس مفصولا عن جسده... يسبح في بركة دم عبيط.

******
من ذا الذي تجرأ على كسر طوق الحراسة، وكشف الحجب، راقبوا القلعة، كل داخل وخارج من النساء والوصيفات والخادمات، ثلاث نساء يطفن سوية أرجاء القلعة في الآونة الأخيرة، أنهن من وصيفات القصر كما يبدو، بيد أن إحداهن، إحداهن فقط، إحداهن من، من تشاهد داخل القلعة أحيانا خلف نقاب، خلف نقاب، نـ..قـ..ــا..ب.!!!!!.

******
سأخاطر يا مولاتي، بحيلة ما، تحقق رغبتك في رؤية رجل، وأي رجل، إنه أخي الفتى الشجاع، لطالما سمع مني عن حسنك وطيبتك ورقتك، فاشتاق لرؤيتك.. كي يكحل عينيه بهذا النور، فلا زال غير مصدق أن الملك الذي عم بظلمه البلاد والعباد، هو والد حورية في نقاء الندى، ووداعة الحمام.

******
سبحان الله أهكذا هم جميعا معشر الرجال، يا لك من فتى وسيم.. وإنك يا مولاتي لآية في الجمال.. كان حبا من النظرة الأولى.. تعددت لقاءاتهما سرا.. في سراديب القلعة الخفية، غمرت الأميرة سعادة لم تعشها من قبل.. كانا يتبادلان شغف الحديث، لساعات طوال، دون ملل أدخلها حبه عوالم لم تعرفها من قبل، عرفت منه عن أبيها ما حرص على إخفائه، طوال حياتها، إنه جبار قهر الأرض والبحار، يحكم بالحديد والنار، قتل الآلاف، يستعبد الناس بالسخرة ليبنوا له القلاع والقصور والأفلاج، والشعب يدعو عليه بالويل والثبور، وعظائم الأمور، قال لها مازحا يوما، في سكرة الوجد: هل سيزوجك الملك بي، إن طلبت يدك غاليتي؟.. لقد منعك عن الرجال الأشراف، فهل سيزوجك لبيدار معدم مثلي يعمل في حراثة الأرض، إنه لأمل مستحيل.

******
في حصنه الأحمر، اتخذ الملك القرار الرهيب، كتيبة جند تزحف على قرية الفتى، قرية النساء الوصيفات، قرية الخونة تحاصرها، فتبيدها تماما، تحيلها خرابا، أثرا بعد عين، هباء منثورا، لا تبقي فيها حجرا على حجر، ولا كائنا يتنفس، لا حرمة لامرأة ولا رحمة بطفل أو حيوان.. يقتل الجميع ثم يحرقون... أما الأميرة فيبنى عليها جدار من طين، في ذات القلعة التي خانت فيها عهد أبيها، وعبثت بشرفه، وأضاعت هيبته، الجدار سيستحيل قبرها، يبنى عليها الجدار حية، يطين عليها بقوالب الحجر واقفة مقيدة، يجصص قالبا، قالبا، حتى تموت داخله صبرا..

******

ساق الحرس الملكي الأميرة في موكب بكاء ونحيب من الوصيفات، جردوها من الحليّ الذهبية، أبدلوها قيودا من حديد، وسلاسل مشدودة إلى الحجارة تبقيها واقفة، تمنعها من الجلوس، وشرعوا في بناء الجدار القبر، قيل أنها كانت تبتسم لجلاديها في هدوء، وهم يعملون في رص قوالب الجص والطين، لم تنبس ببنت شفة ولم تقاوم أمر أبيها الملك، ظلت تراقب الجدار الذي يبنى عليها، وخيط من دموع يسيل من العينين الساحرتين، إلى أن وضع القالب الأخير.. وجصص عليه الطين، فاختفت وراءه إلى أبد الآبدين، وبقيت خصلات من شعرها، خارج الجدار تلعب بها الريح كيف تشاء، عبرة لمن كان يعتبر.

******
أما الملك فقد عاش دهرا بعد ذلك وعمر طويلا فسطر شعراء البلاط قصائد عصماء في مديحه، خاض البحار وقهر الأمصار وتغلب على أعدائه الأشرار والأخيار، لكنه عاش ما عاش مهزوما من داخله، مجرد جثة حية تتنفس، يتحسس في وجوه حاشيته، وعيون رجال ونساء شعبه، أحاديث الفضيحة، والجريمة النكراء التي اقترفتها يداه، تسردها ريح في عتمة الليل.. لقد تحققت النبوءة ومات الملك يوم أن قرر دفن الروح الشفيفة الوحيدة التي كانت تضيء عالمه.

تمت
2013
من مجموعة (عين القطر) تحت الطبع

سمير العريمي