د. جمال عبد العزيز أحمد:
في لغتنا العربية إمكاناتٌ هائلةٌ، وطاقاتٌ لا حدَّ لها، وتمتلك اللغةُ من الأدوات ما يؤهِّلها لتكون في طليعة اللغات الإنسانية، ناهيك عن كونها لغة القرآن الكريم، كلمة الله إلى كونه، وكتابه الذي ارتضاه لجميع خلقه، هذه اللغة فيها أنواع كثيرة من (اللامات)، قد نعرض لها مستقبلًا، لكنْ، تلك كلمةٌ أردتُ بها أن أفرِّق بين نوعين فقط مُهِمَّيْنِ من أنواع هذه (اللامات) في تلك اللغة الجميلة، ويبقى أن (اللامات) في اللغة العربية كثيرة،ومتعددة الدلالات، ومتنوعة العمل النحوي، ويمكنكم الرجوع في ذلك إلى كتاب (اللامات) للزجاجي المتوفى 337هـ،و(اللامات) للإمام أبي الحسن علي بن محمد الهروي المتوفى415هـ)، و(رسالة في اللامات) لأبي جعفر النحاس، المصري موطنًا، مولدًا، صاحب إعراب القرآن، الذي توفي بالفسطاط عام338هـ، .. وغيرها الكثير من كتب (اللامات)، أو تلك الكتب التي صدرت مؤخرًا، وكانت رسائل علمية، دارت حول (اللامات) في كتب الصحاح.. وغيرها،ففيها غنية، وكفاية، وأَعِدُ أن أنشرَ أنواع (اللامات)التي كتبتُها كلها بأسلوبي مستقبلا إن شاء الله، والله المستعان، وهو وحده الهادي إلى سواء السبيل.
ونبدأ باللام المزحلقة، وخصائصها النحوية، وسماتها اللغوية، ونثنِّي باللام المزحلقة ومواضعها، وما تُحْدِثُهُ في التراكيب من أثر، وما تضيفه من دلالة.
أولًا ـ اللام المزحلقة:
هي لام تدخل على المبتدأ في الأصل، ومن ثَمَّ سُمِّيَتْ لامَ الابتداء، وهي من موجبات الابتداء بالكلمة إنْ دخلت عليها، نحو:(ولَعبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشركٍ ولو أعجبكم)، ونحو:(ولأمةٍ مؤمنةٍ خيرٌ من مشركةٍ ولو أعجبتكم)، ونحو:(ولدارُ الآخرة خيرٌ)، والاسم في الأصل هو لام الابتداء،وهي تفيد التوكيد، لكنْ، إذا دخلت (إنَّ) ـوهي كذلك تفيد التوكيد ـ كما تفيده لام الابتداء، فسوف يجتمع مؤكِّدان على مؤكَّد واحد هو المبتدأ الذي أصبح اسمَ (إن) الآنَ، وعندئذ ستدخل (إنَّ) على لام الابتداء، فيجتمع عندنا مؤكدان على مؤكد واحد هو المبتدأ، واللغة حكيمة، فكيف تتصرف؟.
أجازتِ اللغةـ في مثل ذلك ـ أن تُزَحْلَقَ لامُ للابتداء هذه إلى الخبر، حتى يؤكِّدَالحرف(إن)هذا الاسم المؤخر، ويؤكد خبرها تلك اللام المزحلقة من الاسم إلى الخبر، فينتفي دخول مؤكدين على مؤكَّد واحد، وينال كلُّ واحدٍمنهما حظَّه من التأكيد، نحو:(إن ذلك لمحيي الموتى ـ إن ربك لبالمرصاد ـ إن الله لقويٌ عزيز)، وعندئذٍ تُزحلَق، وتُدحرَج إلى الخبر، وقد يتقدم الخبر، نحو:(إنّ في ذلك لآية..)، (إنّ في ذلك لعبرة لمن يخشى)، فتظل لاحقةً بالاسم الذي كان مبتدأ، وقد فصل الخبر بين المؤكدين، فهنا تقدم الخبر، ففصل بين (اللامين)، لئلا يتتالى المؤكِّدان، وهو من حكمة اللغة، وجلال تصرفها، وجمال صنيعها، وصنيع أهلِها الحكماءِ، هذه اللام لام الابتداء في الأصل إذا دخلت على المبتدأ أوجبتِ البدءَ به، وجعلتِ الخبر يتأخر وجوبًا، فدخولها يجعل الرتبة الأصلية (المبتدأ والخبر) واجبةَ الالتزام، بمعنى أن يتقدم المبتدأ وجوبًا، وأن يتأخر الخبر وجوبًا، ويلتزم الأصل في الجملة الاسمية، فلا يتقدم الخبر على المبتدأ، بل يتأخر، ويلزم رتبته الموضوعة له ابتداءً، وهذه اللام تفيد تعميق الدلالة، وترسيخ المفهوم، وتثبيت المعنى في وعي، وحس، ويقين، وزوايا، وأركان المستمع، فعندما يقرأ:(لَخلقُ السموات والأرض أكبر من خلق الناس) يعي حجمَ المعنى، ويدرك مدى ضخامته، ويتأكد تمامًا بأن خلق السموات والأرض من الضخامة، والحجم بما لا يتصوره بشر، ولا يدركه عقلٌ مخلوقٌ، ويترسخ هذا في وعيه، وضميره، وكله، ويملأ عليه هذا المعنى أركانَ نفسِه، ويعيدُ فهمه، ونظرته للسموات والأرض، في ضوء ما أعطاه القرآن الكريم له من دلالة لام الابتداء، وعندما يقرأ كذلك:(ولَأمةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من مشركةٍ ولو أعجبتكم)، يعلم يقينًا كم للأمَة المؤمنة من منزلة، ومكانة عند الله، وفي ميزان شرعه، ودينه، ويقيم لها وزنًا يتناسب مع حجم ما جاء عنها في كتاب الله، وعلى قدر ما دخله من يقين وتأكيد لام الابتداء، وكذلك الأنثى مهما كان قدرُها، ووضعُها الاجتماعي عندما تقرأ:(ولَعبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشركٍ ولو أعجبكم)، فتتأكد وزن الإيمان، وعمله في قلب المؤمن، وأنه لا يجوز المقارنة بين مشركٍ دَوَّخَ جمالُه النساءَ، وأمال رؤوسَ الكثيراتِ منهن، وبين رجلٍ عبدٍ لربه مؤمنٍ بمولاه، أسودِ اللون والبشرة، أبيض القلب صفي الروح، نقي النفس، عالم بعظمة إلهِه، مدركٍ لجلاله، فهو المقدَّم، وغيرُه هوالمؤخَّر، ولو كان الجمالُ مأخوذًا منه، وتتيقَّن أن مقاييسَ السماء، ومعايير الشرع تختلف تمامًا عن مقاييس، ومعايير الأرض، وأن الأمور لها اعتباراتٌ أخرى غيرُ الاعتباراتِ الأرضية، الدُّونِيَّة، وأن الاتصال بالسماء، وتعظيم رب الأرض والسماء هو المقياس الأسمى، والمعيار الأسنى، ويترسخ هذا في قلب، وعقل، وروح، ووعي النساء، ويرون بنور الله في تقدير الرجال الملتزمين من غيرهم، ويجعلون معيارَ الإيمانِ هو الأصل، ودرجة القرب من الله هي الأساس، وعندما يقرأ الواحدُ منا قوله تعالى:(ولَدارُ الآخرة خيرٌ، ولنعم دار المتقين) يقشعر بدنه، ويعتدل قائمًا، وينهض للعمل للدار الآخرة التي جاء تكريمُها واضحًا ماثلًا في هذه الآية.. وغيرها مما هو على شاكلتها، وأن لام الابتداء قد حَرَّكَتْ فيه نوازعَ القربِ، ومكامنَ الودِّ، وقوة الطاعة، ومَارِدَ العبادة، ووفرت له أسباب الاتصال بالله، وتواصل العمل للدار الآخرة، وجعلتْ فؤاده بالخير موَّارا، وعمله، وسعيه، وطاعته ودوامها ودأبه وحبه للدار الآخرة شلالًا مدرارًا، وأن تلك اللام لها أحكام ومعان سياقية رائعة، تجعل من يقف عليها في سياقاتها يهش قلبُه، وتهتز روحُه، وينهض جسدُه، ولا تعرف الخمولَ، والدعةَ ذاتُه.

* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرةبجمهورية مصر العربية.
[email protected]