د. أحمد مصطفى أحمد:
لا يمكن التقليل من خطر تطور الوضع على الحدود بين روسيا وأوكرانيا في أي لحظة، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين يبقي نياته الحقيقية مخفية بغضِّ النظر عن التصريحات العلنية. ولا شك أن هناك حشدا للقوات الروسية على الحدود مع أوكرانيا، كما أرسلت موسكو قوات إلى بيلاروسيا لتطويق أوكرانيا إذا تطلب الأمر. ورغم الجهود الدبلوماسية لخفض التوتر ومنع التصعيد العسكري، إلا أن آلة الإعلام الغربي التي تغذيها تصريحات السياسيين، خصوصا من واشنطن ولندن، تدق طبول حرب "وشيكة" تغزو فيها روسيا أوكرانيا.
جذر الأزمة أن روسيا لا تريد أسلحة حلف شمال الأطلسي (الناتو) على حدودها، ولها مطالب محددة في هذا الشأن تقول إن الغرب لم يلبِّها في المفاوضات. وتؤكد موسكو أنها لا تستهدف غزو أوكرانيا، ولكنها لن تسمح بأن تستخدم الدولة الجارة كمصدر تهديد للأمن القومي الروسي. ربما فعلا لا تعني روسيا غزوا واحتلالا، لكنها قد تجتاح الحدود الشرقية وتفرض نظام حكم غير موال للغرب في كييف. وسيظل ذلك، في عين العالم غزوا وإن لم يكن احتلالا، ففي النهاية لن تتحمل روسيا احتلالا يكلفها فوق طاقتها عسكريا واقتصاديا وسياسيا.
ويدرك بوتين أن تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن بأن عقوبات قاسية تنتظر موسكو إذا أقدمت على غزو أوكرانيا قد لا تكون في الواقع الفعلي سوى أداة ضغط في تفاوض على المصالح الاستراتيجية للروس والغرب في شرق أوروبا. ويبدو أن المستشار الألماني الجديد أولاف شولتس لم يتحمس لطلب بايدن إلغاء خط أنابيب الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا "نوردستريم 2". فهناك (9) دول أوروبية تعتمد بشكل كبير على إمدادات الغاز الطبيعي. ورغم أن بايدن طلب من أمير قطر أن تسد بلاده احتياجات أوروبا من الغاز الطبيعي في حال توقف الغاز الروسي نتيجة تصعيد عسكري، إلا أن لدى قطر التزامات طويلة الأجل تجاه دول أخرى في تعاقدات مسبقة. ولا يتصور أن سعة الإنتاج القطرية الفائضة تكفي لتعويض الغاز الروسي لأوروبا.
المثير في كل ما يجري هو التهويل الإعلامي الغربي من القوة العسكرية الروسية والتي يتم تصويرها بأنها قادرة على مواجهة القوة العسكرية لعشرات الدول الغربية في حلف الناتو. ويذكرنا ذلك بالكذبة الشهيرة نهاية القرن الماضي بشأن العراق. فقد توسع الإعلام الغربي في التهويل من "أسلحة الدمار الشامل" العراقية التي ثبت بعد ذلك أن لا وجود لها. وفي إطار ذلك التهويل، الذي يهيء الرأي العام للقبول بأي إجراء ضمن المهول من شأنه، كانت فرية "المدفع العملاق" الذي يصنعه العراق. ونشرت وسائل الإعلام تقارير عالية الحساسية عن حصول العراق على "مواسير" ضخمة من بريطانيا لتصنيع المدفع العملاق، اتضح بعد ذلك أنها مواسير صرف صحي!! أما تركيز الإعلام الغربي على "الغزو الروسي الوشيك" لأوكرانيا فيذكرنا بفرية شهيرة أخرى أطلقها رئيس وزراء بريطانيا توني بلير مطلع القرن قبل غزو واحتلال العراق أميركيا ـ بريطانيا وهي قوله أمام البرلمان البريطاني إن العراق يمكنه إنتاج قنبلة نووية في 45 دقيقة. ليكتشف العالم بعد ذلك أن العراق لم يكن لديه أصلا برنامج نووي.
يبدو التهويل وكأنه يدفع باتجاه الحرب، أو على الأقل يثير رعب الجماهير حتى تقبل بالحرب إذا اندلعت. بالطبع لا يمكن استبعاد أن روسيا قد تقوم بعمل ما في أوكرانيا، لكن هذا التهويل الإعلامي يذكر الناس بسوابق تاريخية استخدم فيها لتبرير عدوان واحتلال غربي لدول مستقلة ذات سيادة بهدف تغيير النظام فيها. ربما يرى الروس أن الغرب ليس "على قلب رجل واحد" في الموقف من روسيا، وأنه يمكنه الاستفادة من أي تباين بين أميركا وبعض دول أوروبا. لكن ذلك الرهان لن يمنع احتمال تعرض موسكو لعقوبات صارمة. لكن مرة أخرى يرى الروس أن أقسى العقوبات ولسنوات طويلة لم تمنع إيران من أن تبقى على موقفها ولم يتغير النظام كما أراد الأميركان ومن فرضوا العقوبات. صحيح أن روسيا ليست إيران، وأن بوتين لا يريد مزيدا من العزلة بقدر ما يريد زيادة النفوذ الروسي في محيطه الأوروبي. لكن في النهاية لن تكون العقوبات ضارة بروسيا فقط، بل ببعض الشركاء الغربيين ضمن الناتو.
المهم، أن هذا التهويل الإعلامي من العسكرية الروسية ـ وهي قوة ليست هينة تماما، لكنها ليست بالضخامة التي يصورها الإعلام ـ قد يأتي بنتائج عكسية. فالعالم ليس مغفلا، وسيقارن بسهولة بحالات مماثلة قريبة من العراق إلى إيران إلى ليبيا وغيرها. وبالتالي يمكن أن تنقلب محاولة حشد تأييد الرأي العام وتعبئتها لصالح الحرب إلى فقدان مصداقية وخسران ثقة الجماهير في تبريرات السياسيين للحرب أو العقوبات. ذلك على طريقة المثل القديم "إذا زاد الشيء عن حده، انقلب إلى ضده". وفي كل الأحوال، لا يفيد هذا الحشد الإعلامي التهويلي أي طرف، بل على العكس يضر بالجميع. كما أنه لا يوفر المناخ المناسب للجهود الدبلوماسية الحالية لتخفيف التوتر كالتي تقوم بها فرنسا مثلا. ويبدو العالم وكأنه يواجه احتمالات التصعيد العسكري بتصعيد إعلامي، لكنه للأسف يستند إلى مبالغات تقترب من فرية المدفع العملاق وقنبلة ثلاثة أرباع الساعة.