خميس بن حبيب التوبي:
في الوقت الذي تُعوِّل فيه روسيا الاتحاديَّة على الدبلوماسيَّة المُتعقِّلة لِحَلْحَلْة التوتُّر القائم بَيْنها وبَيْنَ الولايات المُتَّحدة وأوروبا على خلفيَّة محاولة ضمِّ أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) والتي ترى في مساعي كُلٍّ من فرنسا وألمانيا وسيلةً مُثلى لتجنُّب مواجهة قد تَخرُج عن السَّيطرة وتُستخدم فيها أسلحة غير تقليديَّة، يبدو هناك طرفٌ يستعجل هذه المواجهة ويبذل كُلَّ ما يملك من جهود ونفوذ مُوظِّفًا آلتَه الإعلاميَّة الضَّخمة في هذا المسار، تارةً بالتَّضخيم العسكري الرُّوسي على الحُدود مع أوكرانيا، والحديث عن الأسلحة الروسيَّة المتطوِّرة، وتارةً عن اتِّخاذ الرئيس الرُّوسي فلاديمير بوتين قرار غزو أوكرانيا وأنَّه وشيكٌ جدًّا، وتارةً أخرى الطَّلب من الرعايا والدُّبلوماسيين مغادرة أوكرانيا على الفَوْر، ويُمثِّل هذا الاتِّجاه الطَّرف الأنجلو ـ ساكسوني (بريطانيا والولايات المُتَّحدة تحديدًا)، في حينٍ ثمَّة دُول أخرى في الحِلف الغربي لا تريد هذه المواجهة، وليس لديها استعداد للتَّضحية بأبنائها ومواردها في حرب ترتدُّ عليها وبالًا، فضلًا عن أنَّ إمكاناتها ومواردها لا تَسمحُ لها بالدخول في مِثْل هكذا مغامرات، خصوصًا وأنَّها تَعْلمُ يقينًا أنَّ الطَّرف المُحرِّض لهذه المواجهة لَنْ يكونَ أكثر تضحيةً، كما لَنْ يكونَ في المُقدِّمة إلا من خلال التَّأجيج وتقديم الأسلحة والتصريحات الإعلاميَّة والتحريض فقط.
عند إعلان الولايات المُتَّحدة سحْبَ قُوَّاتها من أفغانستان، أكَّدْتُ، في مقالٍ بعنوان "في توقيت الانسحاب الأميركي من أفغانستان"، أنَّ هذا الانسحاب وراءه أهداف وأجندة أميركيَّة ـ غربيَّة وذلك للتفرُّغ على وجْه الخصوص لكُلٍّ من روسيا الاتحاديَّة وجمهوريَّة الصِّين الشعبيَّة والجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة، وليس كما يُصوِّرُه كثيرون بأنَّه هزيمة نكراء للقُوَّة العُظمى في العالَم. ولعلَّ ما يجري الآن من تسخين المواجهة مع كُلٍّ من روسيا والصِّين كفيلٌ بتأكيد ذلك، فالجهد العسكري لحِلف شمال الأطلسي ومعه الأميركي انتقل إلى أوكرانيا وعلى الحدود مع روسيا الاتحاديَّة في بولندا ورومانيا وغيرهما. وهذا يعني أنَّ الولايات المُتَّحدة ومَنْ معها أرادت أنْ تجعل من أوكرانيا أفغانستان ثانيةً وقاعدةً مُتقدِّمة في مواجهة روسيا وفي حديقتها الخلفيَّة؛ أي تكرار السيناريو ذاته مع الاتِّحاد السوفيتي بتجنيد الدول الحليفة والصَّديقة، والجماعات الجهاديَّة؛ لاستنزاف قدرات الاتِّحاد السوفيتي وإضعافه، وهذا ما كان، وهذا ما تعمل عليه الولايات المُتَّحدة ومَنْ معها، أو بالأحرى الطَّرف الأنجلو ـ ساكسوني، حيث ستجعل من الدول الحليفة والصَّديقة ومن العصابات داخل أوكرانيا وخارجها رأس حربة لاستنزاف روسيا وإضعافها، وإرغامها على قَبول تنازلات مُؤلمة في عددٍ من الملفَّات، وبالتالي تراجع النُّفوذ الرُّوسي، وقَتْل الأحلام البوتينية لإقامة نظام عالمي مُتعدِّد القطبيَّة تكون فيه روسيا الاتحاديَّة أحدَها.
وفي تقديري أنَّ أفغانستان مُرشَّحة لأنْ تكونَ طرفًا في المواجهة مع روسيا؛ وذلك من خلال مساومة واشنطن حركة طالبان والجماعات الجهاديَّة فيها، بالإفراج عن الأرصدة الأفغانيَّة المُجمَّدة، وتقديم المساعدات الإنسانيَّة، مقابل الانخراط في الحرب ضدَّ روسيا.
صحيح أنَّ موسكو لم تقرأ حديث الولايات المُتَّحدة عن عزمها الانسحاب من أفغانستان ودراسة ما تُخطِّط له وجمع المعلومات اللازمة حَوْلَه، كما أنَّها لم تنتهز الفُرصة يوم سيطرت على جزيرة القرم بتعزيز هذه السيطرة بدعم حلفائها في شرق أوكرانيا والتدخل هناك وفصله، كما فعلت في جورجيا. لكنَّ موسكو لا تزال لديها أوراق فاعلة يمكن أنْ تُغيِّر خريطة التوازنات، لا سِيَّما في الإقليم، إنْ أرادت ذلك، والبدء أولًا من سوريا، وذلك بتقديم الدَّعم العسكري غير المحدود لسوريا في مواجهة أعدائها وأوَّلهم كيان الاحتلال الإسرائيلي، فكما هو معروف أنَّ في مسائل الأمن القومي لا بُدَّ من وجود تضحيات؛ لذلك النَّظرة الرُّوسية إلى أنَّ أكثر من نِصْف سكَّان كيان الاحتلال الإسرائيلي هم من الرُّوس يجب أنْ تتغيَّر، إلى جانب الحسابات الأخرى، بموجب التحدِّي الخطير الذي يواجهه الأمن القَومي الرُّوسي، فالوجَعُ الرُّوسي انطلاقًا من أوكرانيا وجوارها يجب أنْ يقابله وجَعٌ في كيان الاحتلال الإسرائيلي انطلاقًا من سوريا والحدود الأخرى، إنْ أرادت موسكو أنْ تُعدِّل موازين المواجهة، علما أن كيان الاحتلال الإسرائيلي هو رأس حربة متقدِّمة للمصالح الغربيَّة فقط، والأمر كذلك ينسحب في ليبيا والعراق وغيرهما وفي إفريقيا وأميركا اللاتينيَّة والتي فيها مصالح كبيرة للدول الأوروبيَّة يمكن لروسيا التأثير فيها.
إذًا تدفيع روسيا ثَمَن سياساتها وتعاونها مع الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة واتفاقيَّاتها الاستراتيجيَّة الجديدة مع جمهوريَّة الصِّين الشعبيَّة ودعمها لسوريا يبدو واضحًا من خلال اللهجة الأنجلو ـ ساكسونية المُتشدِّدة والمُتشنِّجة ضدَّ موسكو، ومحاولة النَّيْل منها باستدراجها إلى الفَخِّ الأوكراني عبْرَ التَّضخيم الإعلامي لدرجة تبدو مُثيرةً للسُّخرية كتحديد واشنطن موعد الغزو الرُّوسي الذي يفترض أنْ يكونَ من ضِمْن المعلومات السِّريَّة والتَّحضير لمفاجأة روسيا في أوكرانيا. لكنَّ ما يَجِبُ التوقُّف عنده، ويَجِبُ أنْ يَتيقَّنَه الطَّرف الأنجلوـ ساكسوني هو أنَّ الصِّين وإيران ستكونان أكبر الرَّابحين مِنَ المُواجهة العسكريَّة إذا ما نَشِبَت بَيْنَ روسيا وأميركا وتطوَّرت إلى حرب شاملة وغير تقليديَّة.. كما أنَّه لَنْ تقومَ بكين ـ وهي تستعدُّ لِمِثْلِ هذه اللَّحظة الحاسمة وتُمنِّي النَّفْس بزعامة العالَم ـ بأيِّ خطوة لصالح موسكو في المواجهة؛ لأنَّ الصِّين هي الأخرى تتهيَّأ للتخلُّص من صداع تايوان وتنتظر ما ستؤول إليه نتائج الأزمة الأوكرانيَّة.