[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
”ألم يقرأ هؤلاء عن موقف الرسول من مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة، في حياة محمد (ص)، وادعى أن الوحي ينزل عليه من عند الله، وبعث برسالة للرسول يطلب فيها أن يقتسم معه النبوة، ومناطق النفوذ في الجزيرة العربية باعتباره ملكاً، ورغم ذلك رد الرسول عليه بالحسنى مستعيناً بقوله تعالى "إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين"”
ـــــــــــــــــــــــــــ

مضى على عملي بالصحافة أكثر من ربع قرن، لم أعرف خلالها عن الصحافة الفرنسية أكثر من أسماء صحيفتي اللوموند والفيجارو، وبالكثير مجلة باري ماتش، وبسبب الاعتداء الإرهابي الذي تعرضت له مؤخراً تعرفت مضطراً على صحيفة " شارلي أيبدو" ؛ هذا الاعتداء التي قالت السلطات الفرنسية إن وراءه شقيقين فرنسيين من أصول مغاربية، وراح ضحيته 12 قتيلاً بينهم ستيفان شاربونييه رئيس تحرير الصحيفة وأربعة من أبرز رسامي الكاريكاتير في فرنسا، وهذه الصحيفة المغمورة لا توزع أكثر من 50 ألف نسخة في الأسبوع، لذلك كثيراً ما لجأ القائمون عليها للإثارة عن طريق استفزاز أصحاب الأديان السماوية بالإساءة لرسلهم، والتهجم والسخرية من المشاهير والسياسيين بدعوى حرية التعبير، والغرض الحقيقي هو زيادة التوزيع والحصول على الإعلانات.
ورئيس التحرير والمحررون كانوا زبائن دائمين لساحات المحاكم والقضاء الفرنسي بسبب تهم تتعلق بالتشهير والسب والقذف والإساءة للأديان، ولكن المحاكم الفرنسية غالباً ما كانت تنحاز إلى جانب الصحيفة وتخلي سبيلهم بكفالات زهيدة، باعتبار أن ما تنشره حرية تعبير، وهو ما جرأ الجريدة على التمادي في الإساءة للأديان خصوصاً الدين الإسلامي، ويكفي للتدليل على انتهازية الجريدة؛ إعادتها نشر الرسوم الدنماركية المسيئة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، التي رفعت توزيع الجريدة لأكثر من نصف مليون نسخة. وللأسف الشديد أدى حادث الاعتداء المشؤوم لزيادة عدد الزائرين لموقع الصحيفة على الإنترنت، للاطلاع على الرسومات المسيئة، رغم أنه سبق نشرها في الجريدة الورقية عام 2011م، وبدلاً من أن يمنع الحادث الإساءة للإسلام، ساهم في نشر هذه الرسوم الكريهة أضعافاً مضاعفة على مستوى العالم، مع ما ألحقه من أذى بالإسلام والمسلمين، في وقت يشهد فيه الغرب حملة مسعورة من المتعصبين والعنصريين ضد الإسلام والمسلمين فيما يطلق عليه "الإسلام فوبيا". تذكرني هذه الأجواء المسمومة، بما حدث عام 1988م مع سلمان رشدي، وآياته الشيطانية فقد ساهمت فتوى الإمام الخوميني بإهدار دمه، في تحول هذا الكاتب الفاشل والرواية البائسة، من روائي مغمور، إلى كاتب ذائع الصيت، وتضاعف توزيع الرواية، وتعددت طبعاتها وتم ترجمتها لكل لغات العالم، وأدت الفتوى لاحتفاء الغرب بسلمان رشدي وتحويله لبطل قومي، ومنحته ملكة بريطانيا لقب فارس، وأصبح له اسم وسعر في بورصة الأدب والنشر، نتيجة هذه الفتوى المتسرعة التي أوقفت إيران العمل بها بعد وفاة الخميني.
نعم .. ندين ما نشرته "شارلي أيبدو" ونستنكره، ونشجبه، ونلاحقها قضائياً ندعو للتظاهر ضدها، نرد عليها مهنيًّا بكل ما نملك من إمكانيات إعلامية وثقافية ندعو لمقاطعتها، ومقاطعة من يعلن أو ينشر فيها، أما الرد عليها بهذا الاعتداء البشع فهذا إرهاب لا ينبغي قبوله، ولا يجب تبريره ـ كما فعل بعض المتطرفين من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي ـ ظناً منهم أنهم بذلك يثأرون للرسول ويدافعون عن الإسلام، وهم يقدمون أكبر خدمة لأعداء الإسلام، كما أننا إن قبلناه أو بررناه نصبح مشاركين فيه، ونصبح كالدبة التي قتلت صاحبها.
وأستغرب أمر الشباب المسلم المغرر بهم من دعاة متطرفين الذين يقدمون على ارتكاب مثل هذه الجرائم اللا إنسانية، معتقدين أنهم يخدمون الإسلام، وأتساءل ألم يكلف أحدهم نفسه بالاطلاع على السيرة النبوية العطرة، والتعرف على ما فيها من مواقف إنسانية تدعو للمحبة والتسامح، والصفح عن الإساءة مهما كان حجم الأذى، ألم يتعرفوا على موقف الرسول من أهل الطائف، عندما دعاهم للإسلام، فأخرجوا الصبية الصغار يطاردونه سباً وقذفاً بالحجارة حتى دميت قدماه ويكون رد فعل الرسول (ص) "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"
ألم يسمعوا عن موقفه عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة التي دخلها منتصراً بعد أن طُرد منها فاراً من الاضطهاد والإيذاء والتنكيل، وبعد دخولها منتصراً، لم ينتقم من أهلهان بل صفح وعفا، وقال لهم "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
ألم يسمعوا عن "حادثة الإفك"، عندما حاول المنافقون الطعن في عرض النبي بالافتراء على عائشة، وكيف استغل كبير المنافقين عبد الله بن سلول الحادثة للإساءة للرسول وأهل بيته الأطهار، وإحداث الفتنة والاضطراب في المجتمع الإسلامي الوليد، ورغم تأذي الرسول بما كان يقال إيذاء شديداً، إلا أنه ترفع عن الإساءة، وتحلى بالحكمة وضبط النفس، حتى لا تكون فتنة بين المسلمين، وحتى عندما نزل الوحي عليه صلى الله عليه وسلم يبرئ عائشة ويطبق حد القذف على المنافقين، ولكنه عليه الصلاة والسلام يعفو عن عبدالله بن سلول رغم كل ما فعله، اتقاء للفتنة والشقاق بين الأنصار والمهاجرين، وترك عقابه لله يوم القيامة، بل إنه عليه الصلاة والسلام استحى أن يرد ابن عبدالله بن سلول الذي طلب من الرسول الكريم الصلاة على أبيه بعد وفاته رغم معارضة كبار الصحابة، ولكنه عليه الصلاة والسلام تسامى على الصغائر وصلى عليه لأن قلبه لم يعرف سوى الصفح والغفران.
ألم يقرأ هؤلاء عن موقف الرسول من مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة، في حياة محمد (ص)، وادعى أن الوحي ينزل عليه من عند الله، وبعث برسالة للرسول يطلب فيها أن يقتسم معه النبوة، ومناطق النفوذ في الجزيرة العربية باعتباره ملكاً، ورغم ذلك رد الرسول عليه بالحسنى مستعيناً بقوله تعالى "إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين"، وصبر الرسول على ادعائه وكذبه، ولم يرسل من يقاتله إلا عندما منع الزكاة، وأسقط فروض الصلاة.
وبعد وفاة النبي، حافظ الخلفاء الراشدون على شيم الصفح والتسامح، فبينما صمم أبو بكر الصديق على قتال مسيلمة والمرتدين لامتناعهم عن إرسال الزكاة لبيت مال المسلمين، ومجاهرتهم بالردة عن الإسلام، نجد أن عمر بن الخطاب صفح عن سجاح زوجة مسيلمة الكذاب التي ادعت النبوة هي الأخرى، بعد أن تابت توبة نصوحا، ورجعت لصحيح الإسلام، وظلت تعيش في موطنها بسلام حتى وفاتها.
لا بد من تجديد الخطاب الديني الموجه للشباب، وإعادة تدريب وتثقيف الدعاة القائمين على الدعوة ليكونوا على بينة بالتحديات التي تواجه الأمة، والتعاطي معها بطريقة سلسة ولغة عصرية مفهومة، وتوصيل المفاهيم الإيمانية الصحيحة وتسليط الضوء على الأحداث التاريخية المضيئة في تاريخ الإسلام، بعيداً عن الصراخ والتهديد والوعيد.
نحن في حاجة لخطاب ديني عقلاني يدعو للتسامح والسلم، وقبول الآخر، وينسجم مع واقع متعدد الهويات، والأديان والانتماءات، ليس على المستوى العالمي والإقليمي فحسب، بل داخل الوطن الواحد، نحن في حاجة لخطاب قادر على بناء منظومة أخلاقية تهتم بالمعاملات، بقدر اهتمامها بالحدود والعبادات ويكون هدفها حث الشباب على المشاركة في بناء أوطانهم ونهضة مجتمعاتهم.