د. جمال عبد العزيز أحمد:
ثانيًا ـ اللام الفارقة:
أما اللام الفارقة فهي تلك اللام التي تدخل على (إنَّ) التي كانت مشددةً، ثم خُفِّفَتْ، فهي لام فارقة تميز بينها، وبين (إنْ) المخففة ابتداءً، التي تفيد النفيَ فقط، وتُسَمَّى عندئذ (إنْ) المخففة من الثقيلة؛ حتى نميِّز بينها، وبين المخففة أصلا المفيدة للنفي، فأصل (إنَّ) التشديد، ثم تعطيها اللغة إمكانية التخفيف هي وبعض أخواتها من ذوات النون(أنَّ ، وكأنَّ، ولكنَّ)؛ ولذلك يأتون بتلك اللام؛ لتبين الفارق بينها، وبين (إنْ) المخففة ابتداءً، (التي هي ساكنة في أصل وضعها)، وتفيد النفي فقط (كما سلف) ، نحو:(إنْ محمدٌ مسافرٌ) أي ما محمد مسافر، ونحو:" إنْ أنت إلا نذير" (على أنها نافية فقط وغير عاملة)، فالمعنى "ما أنت إلا نذير"، أي لست عليهم بمسيطر ولا مُكْرِهًا.
لكنْ، لاحظ أنه عندما تُخفَّف (إنَّ) المشددة، فالأكثر أنْ تهملَ، ولا تعملَ، وعندئذ ستلتبس ب(إنْ) المخففة ابتداءً، التي هي للنفي، والمشددة عند تخفيفها تهملُ كثيرا، ويقلُّ عملها، فتلتبس بإنِ النافية، فكيف تصرف النحاة؟.
قالوا: نفرِّق بين (إنْ) المخففة من الثقيلة التي لا تزال تفيد التوكيد بعد تخفيفها، و(إن) المخففة أصلا الموضوعة للنفي بوضع اللام الفارقة في خبر (إنْ) المخففة التي تفيد التوكيد، وتهمل كثيرا، ولا تعمل إلا قليلا، كما قال ابن مالك:
وخُفِّفَتْ إِنَّ فَقَلَّ الْعَمَلُ
وَتَلْزَمُ اللَّامَ إِذَا مَا تُهْمَلُ
يعني إذا أهملت (إنَّ المشددة المفيدة للتوكيد)، فصارت مخففةً، قلَّ عملها، وعندما تهمل تدخل اللام في خبرها وتلزم، فهي لا تعمل إلا قليلًا، فتصير في العمل مثل (إنْ) المخففة أصلا، وابتداءً، فلابد من فارقٍ بينهما، وحاجز حصين، فقالوا: نفرِّق بينهما بوضع اللام الفارقة في خبر (إن) المخففة من الثقيلة، المهملة التي لا تزال تحمل التوكيد؛ لتفرق بين (إنْ) النافية الساطنة في أصل وضعها، ومعلوم أن "أنَّ" المشددة ثلاثية الوضع، وأن (إنْ) النافية غير العاملة ثنائية الوضع، وأنَّ (إنَّ) المشددة عاملة، وأنَّ(إنْ) المسكَّنة النافية مهملة، ما لم تكن مشبهةً بـ(ليس)، فتعمل بشروطها المعروفة في بابها، والمشهورة بعملها عمل ليس من أخوات (كان).
وغالبًا يأتي فعلٌ من الأفعال الناسخة مثل:(كان، أو ظن...إلخ) في خبر(إن) المخففة من الثقيلة التي لا تزال تؤكد رغم تخفيفها، أو ملحقاته وتوابعه، فتدخل عليه تلك اللام الفارقة، نحو:(وإنْ كانت لكبيرةً..)، و(إنْ كان أصحاب الأيكة لظالمين)، (وإنْ كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله)، (وإنْ نظنك لمن الكاذبين).. وهكذا.
فتذكرْ أنَّ: أصل (إنَّ) المشددة العملُ، والتوكيدُ، فإذا خُفِّفَتْ، تظل تؤكد، وتهمل كثيرًا، وتعمل قليلًا، وعندما تُهمَل توضع اللام الفارقة بينها، وبين خبرها؛ دلالةً على كونها هي المؤكِّدة التي أُهمِلَتْ بسبب تحفيفها.، وليست هي "إن" النافية".
أما (إنْ) المخففة ابتداءً، المفيدة النفي في أصل وضعها، فقد عُرِفَتْ بنفيها، ووضعت اللغة الحكيمة اللامَ الفارقةَ بينها، وبين المخففة من الثقيلة، المؤكدة، فالمخففة من الثقيلة تظل تفيدُ التوكيد حتى بعد إهمالها، وعدم إعمالها، أما المخففة أصلا المفيدة للنفي فتكون قد تمايزتْ عن أختها المؤكدة، وإنِ التقيا نطقًا، وعدم إعمال(في بعض تراكيب إن المخففة من الثقيلة)، فقد افترقا معنًى ودلالة،كما تمايزا وضعًا.
والله يتقبل أعمالنا، ويرزقنا فهم لغة كتابه الكريم، وجمال دقائقها، وكمال أدواتها، والفوارق بينها وبين بعضها: معنًى، ودلالة، وإعمالا، أو إهمالا.
فتصور أن لامًا كَلَامِ الابتداءِ يعيها القارئ، ويقف على قدراتها، وقوتِها المثقفُ الذي يحبُّ الكتابَ الكريمَ، ويتعشق الوقوفَ أمام حروفه، وبِنَاه، وجمله، وتراكيبه، ولا تمر عليه الآية إلا بعد أن يدير عقلَه، ويتفحص كلماتها بناظريْه، وفكره، واطلاعه وقراءاتها حولها، ويتعايش مع كلِّ حرف فيها، فتراه يَسُحُّ وجهُه: عينًا، ومقلةً على خديه، ويخرُّ لربه ساجدًا، وهو يتفرس التراكيبَ، ويفرِّق بين تلك اللام، وتلك اللام، ويفكِّر في السبب في دخول هذه هنا، ودخول تلك هناكَ، والعلاقة بين التراكيب اللغوية المتناظرة، والدلالات المتراكمة خلفَها، المتزاحمة بين ناظريْه، تريد أن يراها، ويقف عليها، ويتفهَّمَها كلَّها، وتحضره جميعًا، وهو يسير بذهنه في كلماتها، وحروفها، ويستنشق عبيرها، وشذى معانيها، وجلال مراميها، فيعرف حجمَ ما دخلتْه، وقيمة ما أعطتْه، سواء أكانت لام ابتداء، أم لامًا فارقة بين إنِّ المشددة التي خُفِّفَتْ، وبقيَ توكيدها، وذهب عملها فهي دالة عليها، ومشيرة إليها، ومؤكدة لها، وبين (إنْ) التي هي في أصل وضعها للنفي فحسب، فيعودُ حامدًا شاكرًا ربَّه على عطاءات اللغة، وكمالات طاقاتها، وجلال أدواتها، وجمال مقاصدها، فيزداد من اللغة قربًا، ومنها اطلاعًا وحُبًّا، ولها معرفة، ووُدًّا؛ لأنها تَقِفُهُ على جلالِ كلامِ الله في كتابه، وكمالِ عطائِه في قرآنه الكريم، ويتأكد أنه لزامًا عليه أن يتعلمَ تلك اللغة، ويتفهمَ ضوابطها، ويدرك قواعدَها: نحوًا، وصرفًا، وبلاغةً، وأدبًا، وشعرًا، ونثرًا؛ ليقترب منها، ويَعُبَّ مِنْ مَعينها، ويعتبقَ من رياضها، ويسعَى بين بساتينها، ويقطف من أزاهيرِها، ويقتربَ من لغة القرآن الكريم، فيزدادَ له تمسكًا، وبه عملا، ودعوة، وله نَشْرًا، وذَوْدًا، ودفاعًا، وتعليمًا، وبذلا، وعطاء، ويعلمَ أن الله أعطاه ما لم يعطه لغيره، وحَبَاهُ بما يقربه من كتابه جَرَاءَ اجتهاده في تعلم لغة القرآن الكريم، ومحاولة تحصيل ما به يدرك تراكيبَها، ويقف على دلالاتها، وينهل من مشاربها، ويتنسَّم من رياضِها الفيْحاء، وحدائقِها الغنَّاء، ويشكر الله على نعمه، وآلائه، وجميل فضله، اللهم علِّمْنا لغةَ كتابِك، وأكرمْنا بفهم قرآنِك، وارزقنا مَنْ يعلمنا إياها، ويبصرنا بمرماها، ويشرح لنا مقاصدَها، وييسرها علينا، وبلغْنا بها أعلى الدرجات، واجعلنا بها من أهل القربات، واكتبنا في أهل الجنات، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرةبجمهورية مصر العربية.
[email protected]