محمود عدلي الشريف:
أيها القراء الكرام.. أسال الله تعالى أن يبارك لنا في رجب وشعبان وأن يبلغنا رمضان، وأن يوفقنا لطاعته ويجنبنا معصيته وأن يكتبنا من أهل جنته.. آمين. وبعد فقد أتانا شهر رجب وهو عظيم مبارك من الأشهر الحرم التي أخبر عنها القرآن الكريم،قال أبو جعفر: (يقول تعالى ذكره: إن عدة شهور السنة اثنا عشر شهرًا في كتاب الله، الذي كتبَ فيه كل ما هو كائن في قضائه الذي قضى،يقول: هذه الشهور الاثنا عشر منها أربعة أشهر حرم كانت الجاهلية تعظمهن، وتحرِّمهن، وتحرِّم القتال فيهن، حتى لو لقي الرجل منهم فيهن قاتل أبيه لم يَهِجْهُ، وهن: رجب مُضر وثلاثة متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم) (تفسير الطبري، ت: شاكر 14/ 234).
ولهذا الحديث يجب على المسلم في هذا الشهر الحرام أن يبادر بالطاعات والتقرب إلى الله تعالى، فلقد كان أهل الجاهلية يمنعون الحرب فيه، ويوقفون العداوة فيما بينهم، أليس هذا أحق به المسلم أن يعادي كل ما يعادي طاعة ربه وكل ما يشغله عن ذكره وشكره، فمن عظيم فضل هذا الشهر شهر رجب أن هذه الآية الكريمة نزلت فيه:(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ..) (البقرةـ ٢١٧)،وسبب نزولها كما ذكر (الطبري فيتفسيره جامع البيان، ت: شاكر4/ 315):(أن هذه الآية نزلت في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه، وما كان من أمرهم وأمر القتيل الذي قتلوه، فأنزل الله في أمره هذه الآية في آخر جمادى الآخرة من السنة الثانية من مَقْدَم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينةَ وهجرته إليها)، ولما كانت قصة
عبد الله بن حجش وأصحابه ـ رضي الله تعالى عنهم ـ لها ما لها من الواقع العملي ما يفيدنا في تقويه الإيمان والثبات على طاعة الله ورسوله وفداء دين الله تعالى بالنفس والمال، ولما لها من التألق والجمال والمباهاة وقمة الشرف عند ذكر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه الكرام.
أسوقها إليكم وها هي كما ذكرها (الطبري4/302، مرجع سابق): (عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبد الله بن جحش في رجب مَقْفَلَه من بدر الأولى، وبعثَ معه بثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابًا، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره، ولا يستكره من أصحابه أحدًا، فلما سار عبدُ الله بن جحش يومين فتح الكتاب ونظر فيه، فإذا فيه: إذا نظرت إلى كتابي هذا، فسرْ حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف،ترصَّد بها قريشًا، وتعلَّمْ لنا من أخبارهم، فلما نظرعبد الله بن جحش في الكتاب قال:سمعًا وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن أمضي إلى نخلة فأرصد بها قريشًا حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمضى ومضى معه أصحابه، فلم يتخلَّف عنه منهم أحد، وسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمَعْدِن فوق الفُرع يقال له بُحْران ـأو نجران ـ أضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا عليه يعتقبانه ـأي يركبه هذا عقبة وهذا عقبة، أي مرة ومرةـ فتخلَّفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزلوا بنخلة، فمرت به عيرٌ ـ قافلةـ لقريش تحمل زبيبًا وأدَمًا وتجارةً من تجارة قريش، فيها منهم عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريبًا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وقد كان حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا وقالوا: عُمّار!ـ عمّار: معتمرون. والاعتمار والعمرة زيارة البيت الحرام ـ فلا بأس علينا منهم. وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من جمادى ـ وفي نص ابن هشام وتاريخ الطبري:(آخر يوم من رجب) وهو أصح النصين ـ فقال القوم: والله لئن تركتم القومَ هذه الليلة ليدخُلُنَّ الحرم فليمتنعُنَّ به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام! فتردّد القوم فهابوا الإقدام عليهم، ثم شجُعوا عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم. فرمى واقدُ بن عبد الله التميمي عمرَو بن الحضرميّ بسهم فقتله، واستأسرَـ أخذه أسيراـ عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله فأعجزهم.وقدم عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمدينة وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أنّ عبد الله بن جحش قال لأصحابه: إنّ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما غنمتم الخمُس،وذلك قبل أن يُفرضُ الخمس من الغنائم، فعزل لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خُمس العير، وقسم سائرها على أصحابه فلما قدموا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام! فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا فلما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك، سُقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنَّفهم المسلمون فيما صنعوا، وقالوا لهم: صنعتم ما لم تؤمروا به وقاتلتم في الشهر الحرام ولم تؤمروا بقتال! وقالت قريش: قد استحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام، فسفكوا فيه الدمَ، وأخذوا فيه الأموال وأسروافيه الرجال، فقال من يردُّ ذلك عليهم من المسلمين ممن كان بمكة إنما أصابوا ما أصابوا في جمادى! وقالت يهود: تتفاءل بذلك على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم- عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله! "عمرو"، عمرت الحرب! و"الحضرميّ"، حَضَرت الحربُ! و"واقد بن عبد الله"، وقدت الحرب! فجعل الله عليهم ذلك وبهم،فلما أكثر الناسُ في ذلك أنزل الله جلَّ وعزَّ على رسوله:(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَام..ﱞﱟ)ﱠﱡﱢ،أي: عن قتالٍ فيه(قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)إلى قوله:"لَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا"، أي: إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام، فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجُكم عنه إذ أنتم أهله وولاته، أكبرُ عند الله من قتل من قتلتم منهم،أي: قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، وذلك أكبر عند الله من القتل،أي: هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين، فلما نزل القرآن بهذا من الأمر،فرَّج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشَّفَق ـ أي الإشفاق: الخوف والحذر).
والعبرة من القصة أن هذه الأيام أيام هذا الشهر المحرم لها فضل عظيم في تاريخ أمتنا الإسلامية الخالدة، فلتبادر أخي فيها بالطاعات القربات ولا تنس نصيبك من رجب.. وللحديث بقية.

[email protected]*