-1-
لكل مدينة طابعا يميزها عن بقية المدن الأخرى التي يرتادها ويرتحل إليها المسافر أو المصطاف. وهذا ما يجعل من السفر متعة, وثقافة, وتسرية وجزءا من الحياة لمن أدرك معنى التنوع والاختلاف في كل مناحي البيئات اللامتناهية على سطح هذا الكوكب الصغير. والمدينة بهذا المعنى إنما هي وعاء حسي ومعنوي يحتضن العديد من المستويات الثابتة والمتجددة التي يطالعها المسافر والمرتاد – الثابت منها متحرك والمتحرك متحوّل, وبذلك لا يمكن معاينة ذات المبنى أو المعنى في المدن بذات الطريقة مرة ثانية مطلقا. لكن الانطباعات الأولى حين زيارة المدن تبقى ثابتة لا تتحول من الذاكرة. ومن هنا يسهل كتابة انطباعات زيارة المدينة لأول مرة, إذ تكون بجميع المقاييس "متجددة", وبخاصة حين ينفتح القلب والعقل والعين لاستقبال الجرعات الثقافية والاجتماعية والبيئية التي تبثها في أرجاء المحتويات المحيطة.

*********
في الطريق إلى جنيف
توقفنا في الصالة المؤدية للطائرة التي ستقلنا إلى المدينة السويسرية, في مطار لندن, وقد اصطف المسافرون على المقاعد المتقابلة. ونظرت السيدة الإنجليزية, ذات الأربعين خريفا أو ما يقارب ذلك, والتي كانت تجلس بالمقعد المجاور لي, وحانت منها التفاتة وتوجهت بالحديث, على غير عادة القوم المحافظة, حيث يصعب إطلاق العنان للحوار وبخاصة في الأماكن العامة, إذ يلوذ أغلبهم بالصمت وينشغلون بالقراءة أو بشؤونهم الخاصة – أو هكذا يبدو. لكن هذه السيدة وعلى غير العادة لاحظت حركة موسى في المقعد المقابل لنا وأدركت ملامح الشبه, فدارت عجلة الكلام:
- صبي ظريف!
- أشكرك جدا, هذا من لطفك! أهي المرة الأولى إلى سويسرا؟
- مطلقا, فأنا أعشق المدينة والدولة, كل شيء فيها متميز!
- لكن المعيشة باهظة ومكلفة جدا!
- دون شك, لكنني أدخر لهذه الرحلة!
- إلى جنيف؟
- كلا! الوجهة هي التزلج على جبال الجليد. ويمكن أخذ القطار من جنيف بسعر زهيد نسبيا للوصول إلى الجبال. والجو هناك رائع هذه الأيام للتزلج (في بداية إبريل). لكن الموسم طبعا يبدأ منذ أواخر نوفمبر.
- طبعا يصعب التزلج مع وجود أطفال صغار!
- دون شك, ولذلك فهي من المرات القليلة التي ارتحل فيها بنفسي طلبا للتزلج.
- بالنسبة لي تعتبر ثقافة السفر مع العائلة جزءا مهما وأساسيا, فقد طفنا معا العديد من الدول الشرق أوسطية وشمال إفريقيا وأوروبا.
- نعم! ونحن كذلك فالسفر أساسي ويعتبر جزءا من الثقافة الإنجليزية عموما, وليس للموسرين فقط. ارتحلت إلى شمال إفريقيا وأعشق المغرب ومصر.
- طبعا العالم تغير للأسف ولم يعد كما كان عليه سابقا – تداخلت الثقافات ولكن تمايزت الأعراق بالنسبة للأمن والأمان على غير المتوقع والمألوف سابقا.
- هذا صحيح ولذلك فقد تحدد السفر جغرافيا.
- هناك دول آمنة وتعتبر وجهة لنا.
- هل ارتحلت للشرق الأوسط؟
- نعم. العام الماضي كنت في سلطنة عمان – جوّها رائع وطبيعتها مضيافة, كما ذهبت إلى دبي عدة مرات.
- ترددت على عمان العديد من المرات وهي كذلك وتعتبر مقصدا مهما للمرتحلين لطبيعتها وبيئاتها الثقافية التي تميزها عن غيرها من الدول في الشرق الأوسط. لكن برأيي أن المدن تتمايز بطبيعتها الثقافية الاجتماعية وليس فقط في بنيتها التكوينية المورفولوجية. ومن المفارقة اليوم أنه أصبح بمقدورنا الترحال بين مدن متناقضة من هذا الإطار الثقافي الإجتماعية وفي وقت قياسي جدا – وهنا مكمن الخطر. فالمدن تحتضن بيئات متنوعة متناقضة ومختلفة بدرجة مذهلة. لنتخيل أن مسافرا ارتحل في يومين من أقصى الكرة إلى أقصاها. فعدا عن معضلة تباين الوقت مع أو عكس عقارب الساعة, هناك التباين الشاسع في المناخ. أذكر ذات مرة أنني كنت في الطريق إلى مطار هيثرو بالقطار, وبينما كنت أطل من نافذة القطار على جو شبه قطبي وقد تدثر اللندنيون بالملابس الثقيلة كانت هناك فتاة تبدو غريبة في ملبسها وقد انتعلت صندلا لا يكاد يقي قدميها برد الشتاء القارس فضلا عن الملابس الخفيفة "الصيفية" التي لا تناسب هذا الوقت من السنة. وهكذا يحدث الكثير من هذه الأمور أثناء السفر مناخيا ما لم يتخذ المسافر احتياطاته بمعرفة الطقس وحالة المناخ في البلد التي يرتحل إليها تحدث مفاجآت من هذا القبيل. لكن الأخطر من ذلك كله أنه يتعين على المسافر أن يفهم أبجديات الثقافة التي يتنقل إليها في هذا العالم الصغير المترابط أكثر من أي وقت مضى. لنتخيل مثلا أن مسافرا تنقل من مدينة سويسرية فيها, كما هو الحال فعلا, قدر كبير من الأمان والأمن لا تقاس ولا تقارن بأية مدينة أخرى, ربما في بعض المدن النادرة مثل مدينة مسقط مثلا حيث الثقافة ذاتها في مقياس الأمان النسبي, وبين مدينة درجة الأمن والأمان فيها متدنية جدا. ولنتخيل تداخل الليل والنهار في السفر بحيث ينقلب الليل في مدينة إلى نهار في أخرى والعكس, ولنتخيل أن مسافرا غافلا يصل لمدينة درجة الأمان فيها متدنية جدا ليجد المسافر نفسه في أوضاع خطرة في مناطق غير آمنة.
من القصص والنوادر التي أرويها في هذا الإطار, قصة حصلت معي قبل عدة سنوات حين كنت أتنقل بين لندن ومسقط. تعرفين طبعا مقدار الحيطة والحرص تجاه عامل الأمان في مدينة عاصمية تتداخل فيها الثقافات والأعراق والظروف مقابل مدينة وادعة آمنة كمدينة مسقط. ونحن فعلا نواتج بيئاتنا الثقافية الاجتماعية. بعد أكثر من عقد واحد في العيش بلندن تكونت الصورة والممارسة الثقافية الاجتماعية في ضرورة اتخاذ احتياطات بالنسبة لعامل الأمان والسلامة الشخصية, وهذا بات ينعكس على السلوكيات والممارسات الشخصية في إغلاق الأبواب بإحكام ومراعاة أوقات وأماكن الخروج ليلا وحتى نهارا. بالمقابل كنت في تلك السنوات في مسقط, وذهبت مع صديق في زيارة عمل لبيت باحثة إنجليزية مسنّة قضت عقدين من عمرها في مدينة مسقط حيث نسبة الأمان الإجتماعي والثقافي والشخصي عالية, ولدهشتي الشديدة وجدت باب بيتها الخارجي الذي يفضي للصالة الرئيسة مباشرة ليس أنه غير موصد بإحكام فحسب, ولكنه شبه مفتوح! وهكذا فتباين الثقافات في مسألة الخصوصية وعامل الأمان مهم جدا في تلمس الفروقات بين الجغرافيا والأقطار في السفر – وبخاصة أثناء سفر العائلة. وفي هذا الإطار يلحظ المسافر فرقا هائلا في مسألة الأمان وخصوصيته العالية جدا في الثقافة السويسرية عموما – حيث تتميز المدن السويسرية بالأمان ليلا ونهارا. وهذا له عوامل كثيرة جدا منها العامل السياسي الحيادي والنظام الذي بنيت عليه الثقافة ذاتها في قبول الأغراب واستقدامها بناء على معايير صارمة وذات خصوصية لا مثال لها في بقية أقطار العالم.

كنا في سلطنة عمان قبل عدة أشهر وقد أحبها جدا صغيرنا. أذكر أنه عندما وصلنا من السفر ودخل بهو الفندق انطلقت منه صيحة دهشة وانبهار, فضلا عن أنه يحب المدن والأقطار التي بها ساحل وبحر, فقد أحب دبي جدا, والكويت التي أطلق عليها اسم "بلاد الروعة". والأهم أن جغرافيا العالم بدأت بالتكون عنده منذ الصغر.
- حسنا! ولكن يقال أن الأطفال دون سن الخامسة لا يحتفظون بالكثير من الذكريات.
- حسنا جد! في الوقت الحالي على الأقل هناك الكثير من الذكريات "المصورة" للمدن التي ارتحلنا إليها, كما لا تزال الأسماء والأماكن تتردد على لسانه, وفي حال لم تكن في الذاكرة بعد سنوات يبدو أننا سنعيد الكرّة مجددا, ولا مانع عندي من إعادة زيارة المدائن ذاتها مرات ومرات بهذه الرفقة العائلية.
وفي تلك اللحظة أعلن في الصالة الصغيرة عن بدء الإستعداد لتنظيم المسافرين إيذانا لبدء الصعود إلى الطائرة فتمنى كل منا للآخر رحلة ممتعة, قبل أن نمشي عبر ساحة المطار حتى سلم الطائرة الصغيرة التي أقلنا للمدينة السويسرية في رحلة كلها إثارة ومتعة في ثقافة لا مثيل لها..... وللحديث تتمة

د. وليد أحمد السيد