د. سعدون بن حسين الحمداني:
إن جميع نظريات ومفاهيم التفاوض التي تُدرس في الكليات والمعاهد الدبلوماسية في أغلب دول العالم، وخصوصًا الغربية منها، تركز كثيرًا على مبدأين أساسيين هما (الاستراتيجية والتكتيك) والتي تعتمد عليها التفاوض لجميع أنواعها.
هناك فرق كبير بين الاستراتيجية التفاوضية والتكتيك التفاوضي، فالاستراتيجية هي الأهداف الجوهرية العامة لفترات طويلة في كل الأوقات الإيجابية والسلبية ولجميع المراحل بمختلف الأدوات والوسائل المتوافرة، أما التكتيك فهو فن قيادة لحالة معيَّنة محدود المسؤولية والوقت والمستلزمات والأهداف.
إن أهم مرتكزات الاستراتيجية التفاوضية هو أنها تُبنى على خريطة طريق ذات مقوِّمات معلومة الأهداف مرسومة الأدوات والأساليب من قِبل هرم الدولة تماشيًا مع المصالح الوطنية للبلد، بالإضافة إلى أنها تستند إلى الهدوء والحكمة والتأني في اتخاذ القرار، وسعة الصدر في تقبُّل الرأي الآخر بعيدًا عن التخندق الحزبي والسياسي والديني، جاعلًا الحالة الإنسانية من أسمى مقوِّمات المحافظة عليها، وتحقيق الرفاهية لها بمختلف الوسائل المتاحة بعيدًا عن الحروب وإراقة الدماء.
وقبل أن نخوض في هذا المجال، علينا التعرف على فن التفاوض والذي تعرفه أغلب المدارس بأنه هو "الحوار والمناقشة بين طرفين (شخصين أو مجموعتين) حول موضوع محدد للوصول إلى اتفاق نهائي أو مبدئي على عدة مراحل يتفق عليه الطرفان"، وكذلك فإن التفاوض هو عرض مطالب كل طرف وتبادل الآراء، وتقريب وجهات النظر، والوصول إلى الحلول المقترحة، واللجوء إلى كافة أساليب الإقناع المتاحة لكل طرف لإجبار الطرف الآخر على القبول بما يقدمه الأول من وجهات نظر أو مقترحات تنتهي باتفاق يتبادل بموجبه الأطراف الوثائق المطلوبة ويكون ملزما تجاه أنفسهم أولا وتجاه الطرف الثاني (فردًا أو مجموعة).
إن أهم سمات التفاوض هو التميُّز في إدارة الحديث بالأداء والطرح، لغة الجسد، نبرة الصوت وهدوء الأعصاب، الحنكة الكلامية، بُعد النظر للموضوع، احتواء المقابلة والمطاولة والصبر في النقاش في الاجتماعات، الإلمام الكامل بكل مفردات الموضوع من ناحية علم اللغة القانوني العام وعلم الكلمة وعلم المعنى، لباقة اللسان والتوقف في الكلام عند نقاط القوة في المفاوضات، الاستمرار بالتفاوض ضمن أدلة حقيقية واقعية ملموسة، أن تكون لدى المفاوض القدرة الكافية على تحليل الطرف الثاني والربط بين المواضيع المطروحة للمناقشة، أن يكون المفاوض ذا عقلية لماحة وأن يكون سلسًا مرنًا ومع ذلك حاسمًا عند اللزوم. وقبل كل هذه السمات، يجب أن يكون لدى المفاوض تخطيط ودراسة مسبقة للموضوع وتحليل جيد لنقاط النقاش (قوتها وضعفها) مبني على التحليل المنطقي لغرض تحقيق أعلى المعايير والوصول إلى هرم المهارات لسمات التفاوض. كل هذه السمات تعتمد اعتمادًا كليًّا على أصول واستراتيجية الدبلوماسية التي يجب اتباعها لغرض معرفة قدرة وشخصية الطرف الثاني.
إن من صفات المفاوض المحترف هي: القدرة على التحليل وتصور المشاكل والسلبيات والإيجابيات، القدرة على الحكم الصائب على الأمور القاصرة أو المجزأة وغير الواضحة المعالم، القدرة الكاملة في التلاعب بمفردات اللغة من ناحية الكلمات والمعنى، القدرة على اتخاذ القرارات وحُسن التصرف في الوقت المناسب، وعدم التعصب أو إبداء عدم الرضا؛ لأن ذلك من نقاط ضعف المفاوض، المرونة في تقبل آراء الطرف الثاني والاستعداد التام للتفاوض معه استنادا للهدف المرسوم، الاتزان النفسي والنضج العاطفي والابتعاد عن المشاعر والأحاسيس، المعرفة الكاملة بالجوانب القانونية والاقتصادية واللغوية، وخصوصًا المترجمة إلى لغة أخرى، وكذلك الانتباه إلى (فقرة التنقيط) بين الجمل اللغوية سواء باللغة العربية أو الإنجليزية أو الأخرى، الانتباه واليقظة الدائمة من كافة الاحتمالات، وضع خطة بديلة أولى وثانية أو بالأحرى احتمالات أولى وثانية.
إن سمات الشخصية التفاوضية الدبلوماسية لا تأتي من قراءة كتاب أو الاطلاع على النظريات الحديثة، وإنما تأتي من خلال الحلقات التدريبية، والعمر الطويل في هذا المجال الاحترافي، والخبرة المتنوعة في مواضيع مختلفة ومستمرة وأماكن مختلفة معتمدًا على المعرفة والمهارة وتحسين القدرات الدبلوماسية، وخصوصًا في موضوع البروتوكول والإتيكيت التي تدخل ضمن شخصية المفاوض، لذلك على المفاوض معرفة سلوك وثقافة الطرف الثاني المقابل والتي تعد أساسية قبل اللقاء، وإلا سيكون تعسرا في عملية التفاوض، على المفاوض قبل الدخول إلى المفاوضات يجب التحري وجمع المعلومات عن سمعة وشخصية الطرف الآخر من مهارات وخبرات وثقافة.
إن الحنكة الدبلوماسية لدى المفاوض تجعله يفكر بدل الخصم ويقوم بتحليل أفكاره والتنبؤ بما يريده الخصم، والتنبؤ بما يعتقد أن الخصم يريده منا، وبهذا توضع التصورات لأهداف الطرف الثاني لكل سيناريوهات الحوار ووضع كافة البدائل المتاحة من أجل الوصول إلى الهدف بأقل الخسائر المحسوبة.
الحكمة الدبلوماسية في المفاوضات هي استراتيجية مهمة للنجاح دائمًا، وعكس ذلك هو الفشل الذريع أو اختيار الحل العسكري، وهذا ما حصل في حرب الخليج الأولى وما حصل حديثًا بين روسيا من جهة أميركا وحلف الناتو وأوكرانيا من جهة أخرى.
إن المفاوضات تُبنى على قوة الشخصية واحترام الذات والمقابل والثقة بالنفس، وتقسيم مصادر القوة إلى مصادر داخلية وأخرى خارجية، ومعتمدين على عناصر القيادة والبروتوكول والإتيكيت؛ لأنها أساس المواجهة والمناقشة.