محمود عدلي الشريف:
إخوة الهدى والإسلام.. فموعدنا اليوم مع الورقة الأخيرة من موضوعنا (لا تنس نصيبك من رجب) وقد وقف بنا الحديث عندما يمكن للمؤمن أن يزداد من قربات وطاعاتفي هذا الشهر المبارك، وتحديدًا وقفنا عند سؤال يقول: إذا كان هناك أحاديث مستحسنة تحث على الطاعات ومنها الصيام في الأيام ذات الفضل كالأشهر الحرم ومنها رجب إلا أنّ هناك من يمنعها، وكان منهم عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ فلماذا هذا المنع على الرغم من إنها طاعات في أيام مباركة؟ والحقيقة أن منعهم لم يكن لمجرد المنع وإنما لعدم اللبس بين المندوب والمسنون، ففي (مسند الفاروق، ت: إمام 1/ 435) جاء:(عن خَرَشة بن الحُرِّ قال: رأيتُ عمرَ بن الخطاب -رضي الله عنه- يَضرِبُ أيدِيَ الرِّجالَ إذا رَفَعوها عن الطعامِ في رجبٍ حتى يَضَعوها فيه، ويقول: إنما هو شهرٌ كان أهلُ الجاهليةِ يُعظِّمونَهُ)،وروى ابن وضاح: أنّ عمر بن الخطاب كان يضرب الرجبيين الذين يصومون رجبًا كله،وهذا لا شك من باب سد الذرائع حتى لا يخلط بين رمضان، كما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يحدد لرجب صيامًا محددًا، وروى مالك والبخاري ومسلم عن عائشة:(أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان يخص شهرًا من السنة بصوم)،كما أنه لم يؤثر عنه أحاديث تدل على ذلك، حتى أن الحافظ أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني وضع رسالة بعنوان:(تبيِين العجب بما ورد في فضل رجب)، جمع فيها جمهرة الأحاديث الواردة في فضائل شهر رجب وصِيامه والصلاة فيه، وقسَّمها إلى ضعيفة وموضوعة،وأكد ما سبق صاحب كتاب (فيض القدير 4/ 18)قال في كتاب (الصراط المستقيم):(لم يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في فضل رجب إلا خبر كان إذا دخل رجب قال: اللهم بارك لنا في رجب) ولم يثبت غيره بل عامة الأحاديث المأثورة فيه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) كذب، وقال النووي: (لم يثبت في صوم رجب ندب ولا نهي بعينه ولكن أصل الصوم مندوب)، وقد جاء في كتاب (الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص: 52):(ذكر الشَّيْخ أَبُو الْخطاب فِي كتاب أَدَاء مَا وَجب من بَيَان وضع الوضاعين فِي رَجَب عَن المؤتمن بن أَحْمد السَّاجِي الْحَافِظ قَالَ كَانَ الإِمَام عبد الله الْأنْصَارِيّ شيخ خُرَاسَان لَا يَصُوم رَجَب وَيُنْهِي عَن ذَلِك وَيَقُول مَا صَحَّ فِي فضل رَجَب وَلَا فِي صيامه عَن رَسُول الله ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ـ شَيْء).
وهذا اجتهاد محمود على الرغم من أن هناك أحاديث استحسنها بعض العلماء ورووها لنا، ومن هنا فالطاعة لا تمنع ولكنها لا تؤخذ على مؤديها كالفريضة، ومن هذه الأحاديث المستحسنة ما رواه (ابن عساكر ص: 316) فضل رجب:(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَـ رضي الله عنه ـأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يصم بعد رمضان إلا رجب وَشَعْبَانَ)،وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ:(لا آمُرُ بِصَوْمِ شَهْرٍ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ إِلا بِرَجَبٍ وَشَعْبَانَ)لَمْ أَكْتُبْهُ إِلا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.(المرجع السابق، ص: 303). وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم): (إنّ رجب شَهْرُ اللَّهِ، وَيُدْعَى الأَصَمَّ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ يُعَطِّلُونَ أَسْلِحَتَهُمْ وَيَضَعُونَهَا، فَكَانَ النَّاسُ يَأْمَنُونَ وَتَأْمَنُ السُّبُلُ، وَلا يَخَافُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَنْقَضِيَ)(المرجع السابق، ص: 307)، وقال عثمان بن حكيم:(سألت سعيد بن جبير عن صيام رجب؟ فقال: أخبرني ابن عباس: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يصوم حتى نقول: إنه لا يفطر، ويفطر حتى نقول: إنه لا يصوم).
وعليه ـ أيها الأحبة ـ فلا مانع أن نتطوع إلى الله سبحانه في شهر رجب استعدادًا لشهر رمضان وتمهيدًا لاستقباله ـ نسأل الله تعالى أن يبلغنا رمضان ومن نحب جميعًاـ كما لا يفوتني أن أذكّر نفسي وإياكم بطرق الخير والبر والطاعات فإنّها فرصة عظيمة لنرجع فيها إلى بارينا وأن نحاسب فيها أنفسنا، فلا يخفى علينا جميعًا أننا في غمرات الحياة وأمواجها نتلاطم ونتصارع في غفلاتها، فلابد أن نظل نطرق باب اليقظة حتى تفتح لنا الإفاقة من كل غفلة وتهيه، وها هي الأيام المباركة قد أهلت لنجعل لنا من طاعة الله نصيبًا، فعن محمد بن مسلمة:(إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها، لعله أن يصيبكمنفحة منها فلا تشقون بعدها أبدًا)(رواه الطبراني في الكبير برقم 3189)، فهي فرصة لنجدد العهد ونسلك الدرب ونرضي الرب سبحانه وتعالى، وأترككم مع هذا الأثر الجميل الذي إن نأخذ منه العبرة والعظة وهو لا يأتي بأمر ولا نهي، أسوقه إليكم لجمال ما ورد فيه من مواقف، وقد رواه ابن عساكر (ص: 307):(عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ:أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ مَرَّ بِرَجُلٍ أَعْمَى مُقْعَدٍ فَقَالَ: أَمَا كَانَ هَذَا يَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ؟ فَقَالَ رجلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَا تَعْرِفُ هَذَا؟ هَذَا الَّذِي بَهَلَه بريقٌ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ بُرَيْقًا لقبٌ، وَلَكِنِ ادْعُ لِي عِيَاضًا، فَقَالَ: حَدِّثْنِي حَدِيثَ بَنِي الضَّبْعَاءِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ حَدِيثُ جَاهِلِيَّةٍ، وَإِنَّهُ لا إِرْبَ لَكَ بِهِ فِي الإِسْلامِ، قَالَ: ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ تُحَدِّثَنَا، فَقَالَ: إِنَّ بَنِي الضَّبْعَاءِ كَانُوا عَشَرَةً، وَكَانَتْ أُخْتُهُمْ تَحْتِي، فَأَرَادُوا أَنْ ينزعوها مني، فنشدتهم اللَّهَ وَالْقَرَابَةَ وَالرَّحِمَ فَأَبَوْا إِلا أَنْ يَنْزِعُوهَا مِنِّي، فَأَمْهَلْتُهُمْ حَتَّى دَخَلَ رَجَبُ مُضَرَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ فَقُلْتُ:اللَّهُمَّ أَدْعُوكَ دُعَاءً جَاهِدًا.. عَلَى بَنِي الضَّبْعَاءِ فَاتْرُكْ وَاحِدًا.. وَكَسِّرِ الرَّجُلَ فَدَعْهُ قَاعِدًا.. أَعْمَى إِذَا قِيدَ يَعْنِي الْقَائِدَا، قَالَ: فَهَلَكُوا جَمِيعًا لَيْسَ هَذَا، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ حَدِيثًا أَعْجَبَ. فَقَالَ رجلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَفَلا أُحَدِّثُكَ بأعجب من ذلك؟ قال: حدث حَتَّى يَسْمَعَ الْقَوْمُ، قَالَ: إِنِّي كُنْتُ مِنْ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَمَاتُوا كُلُّهُمْ فَأَصَبْتُ مَوَارِيثَهُمْ، فَانْتَجَعْتُ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو الْمُؤَمَّلِ، كُنْتُ فِيهِمْ زَمَانًا طَوِيلًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَرَادُوا أَخْذَ مَالِي، فَنَاشَدْتُهُمُ اللَّهَ فَأَبَوْا إِلا أَنْ يَنْزِعُوا مَالِي، وَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ رجلٌ يُقَالُ لَهُ: رِيَاحٌ، فَقَالَ: يَا بَنِي مُؤَمَّلٍ، جَارُكُمْ وَخَفِيرُكُمْ لا يَنْبَغِي لَكُمْ أَخْذَ مَالِهِ، قَالَ: فَعَصَوْهُ وَأَخَذُوا مَالِي، فَأَمْهَلْتُهُمْ حَتَّى دَخَلَ رَجَبُ مُضَرَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ فقلت:اللهم أزلها عَنْ بَنِي مُؤَمَّلِ .. وَارْمِ عَلَى أقفائهم بمنكل.. بِصَخْرَةٍ أَوْ عُرْضِ جَيْشٍ جَحْفَلِ.. إِلا رِيَاحًا إِنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ، قَالَ: فَبَيْنَا هُمْ يَسِيرُونَ فِي أَصْلِ جَبَلٍ أَوْ فِي سَفْحِ جَبَلٍ إِذْ تَدَاعَى عَلَيْهِمُ الْجَبَلُ، فَهَلَكُوا جَمِيعًا، لَيْسَ رِيَاحًا نَجَّاهُ اللَّهُ، فَقَالَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ حَدِيثًا أَعْجَبَ. فَقَامَ رجلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَفَلا أُحَدِّثُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: حَدِّثْ حَتَّى يَسْمَعَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: إِنَّ أَبِي وَعَمِّي وَرِثَا أَبَاهُمَا، فَأَسْرَعَ عَمِّي فِي الَّذِي لَهُ وَبَقِيَ مَالِي، فَأَرَادَ بَنُوهُ أَنْ يَنْزِعُوا مَالِي، فَأَمْهَلْتُهُمْ حَتَّى دَخَلَ رَجَبُ مُضَرَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ فَقُلْتُ:اللَّهُمَّ رَبَّ كُلِّ آمِنٍ وَخَائِفٍ.. وَسَامِعًا نِدَاءَ كُلِّ هاتف.. إن الخناعي أَبَا تُقَاصِفَ.. لَمْ يُعْطِنِي الْحَقَّ وَلَمْ يُنَاصِفِ.. فَاجْمَعْ لَهُ الأَحِبَّةَ الألاطف.. بين القران السود والنواصف،قال: فبينا بَنُوهُ وَهُمْ عشرةٌ فِي بِئْرٍ يحفرونها إذ تهاوت عَلَيْهِمُ الْبِئْرُ فَكَانَتْ قُبُورهُمْ، فَقَالَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ حَدِيثًا أَعْجَبَ. فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ اللَّهُ يَصْنَعُ بِهِمْ مَا تَرَى فَأَهْلُ الإِسْلامِ أَحْرَى بِذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ اللَّهُ يَصْنَعُ بِهِمْ ما تسمعون ليحجز بعضهم عن بَعْضٍ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ السَّاعَةَ مَوْعِدَكُمْ، وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ".هَذَا منقطعٌ بَيْنَ حَمَّادٍ وَعُمَرَ، وَقَدْ رُوِيَ مَوْصُولا مِنْ وجوه أخر. هذا وكل عام وأنتم بخير.

*[email protected]