د. أحمد مصطفى أحمد:
كثيرة هي المقالات والتعليقات والتحليلات بشأن الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا. وسبق أن أشرنا في هذه الزاوية سابقا، وقبل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أن من مصلحة المنطقة ألا تتخذ مواقف صارمة مع هذا الطرف أو ذاك وأن تقدر تصرفاتها على أساس مصالحها. ولعلَّ تطورات الحرب عززت بالفعل الرأي بأن هذا هو الوضع الأفضل لنا. وأيا كانت نتائج الحرب وتأثيرها على العلاقات الدولية، ومنها ما قد يطول منطقتنا بالفعل مباشرة أو بشكل غير مباشر، فإن هناك نتاجا جانبيا للأزمة يؤثر علينا مباشرة والآن وليس فيما بعد. وهذا ما أتصور أنه يستحق المتابعة والتعليق بغرض تبين أفضل السبل للاستفادة منه من ناحية، وتقليل أضراره من ناحية أخرى. ذلك هو العقوبات الغربية التي يتم فرضها على روسيا وزيادتها حزمة حزمة.
فبغضِّ النظر عن تطورات الحرب، لا يبدو أن أميركا وحلفاءها الغربيين على استعداد للقتال المباشر ضد روسيا، حتى وإن أمدوا الأوكرانيين بالسلاح لاستنزاف القوات الروسية في أوكرانيا. وذلك ما فعلته الولايات المتحدة وحلفاؤها في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي إبان الاحتلال السوفييتي لأفغانستان. ولم تغزُ أميركا أفغانستان إلا بعد خروج السوفييت وبعد فترة من حكم حركة طالبان وعقب أحداث 11 سبتمبر 2001. فالحرب من جانب الغرب الآن هي "حرب عقوبات" إن جاز التعبير. هذه العقوبات على روسيا، وتبعات الحرب اقتصاديا على أوكرانيا لا شك تؤثر في العالم كله، بما فيه الدول التي تفرضها. ونحن في منطقتنا جزء من هذا العالم وتأثرنا بها آني وكبير أيضا. لكن بداية، من المهم أن ندرك أن هذه العقوبات على روسيا ليست مثل نظام العقوبات على إيران المستمر منذ سنوات طويلة وتم تشديده أكثر من مرة حتى وصل إلى أقسى ما يمكن. ولذلك أسباب عديدة ليس هذا مقام شرحها، لكن فقط علينا توقع ألا تستمر طويلا مهما كانت نتائج الحرب وحتى إذا تم تشديدها أكثر خلال الحرب.
ربما يتصور البعض أن الفائدة الأهم والمباشرة هي للدول المنتجة والمصدرة للنفط والغاز نتيجة ارتفاع الأسعار حاليا. وهذا صحيح، إذ إن ارتفاع الأسعار بضعة دولارات قليلة يعني إضافة بضعة مليارات للدول المصدرة للطاقة. لكن ذلك قد لا يستمر طويلا، فارتفاع الأسعار الحالي هو رد فعل نتيجة "عوامل نفسية" أكثر منه استنادا إلى أساسيات السوق. فما زالت العقوبات على روسيا لا تشمل قطاع الطاقة، ويتدفق الغاز الروسي إلى أوروبا ملبيا ما يقارب نصف احتياجاتها منه. والحديث عن استغناء أوروبا عن واردات الطاقة من روسيا أقرب إلى الفانتازيا. فإذا أخذنا الغاز ـ على سبيل المثال ـ فهناك أكثر من ثلاثمئة مليار متر مكعب تستوردها أوروبا سنويا من روسيا، وإذا اجتمع كل مُصدِّري الغاز في العالم وحولوا طاقة الإنتاج الإضافية إليهم للتوريد إلى أوروبا فلن تسدَّ عشرة في المئة من تلك الكمية. الخلاصة، أنه حتى الآن، ليس هناك نقص في المعروض في السوق العالمية يدفع لتوقع استمرار ارتفاع أسعار الطاقة بهذا المعدل. ومن شأن أي زيادة ضخمة في إنتاج البعض لتعويض ما يتوقع أن يكون نقص في المعروض الروسي يمكن أن يؤدي فيما بعد، على المدى المتوسط، إلى انهيار أسعار. فالأفضل، الاستفادة الآنية من الارتفاع الحالي دون تخطيط للاعتماد عليه في ميزانيات الدول المصدرة.
أما حظر روسيا من بعض جوانب النظام المالي العالمي فبالتأكيد سيؤثر على تجارتها مع العالم، بما في ذلك حتى تجارة النفط والغاز، وهذا ما يمكن التفكير في الاستفادة منه دون إغضاب أميركا والغرب الذين يفرضون العقوبات، ولا حتى أن نبدو كمن يصطف مع روسيا ضد أوكرانيا والغرب. ويمكن التعامل مع ذلك بطريقة أن "البزنس لا موقف سياسيا له"، وهنا يمكن الاستفادة من رغبة روسيا في التجارة بأسعار تفضيلية مع من يشارك في نظامها الذي طورته للمراسلة البنكية بديلا لنظام "سويفت" أو حتى التجارة بالمقايضة عبر "تبادل عملات"؛ أي بحساب الصفقات بالعملات المحلية للطرفين. وليس ذلك بالأمر غير المسبوق، إذ تتعامل به بعض الدول لتفادي كثير من العقوبات والتعقيدات. ورغم أن ذلك قد يبدو أمرا مؤقتا إلا أنه يفيد الطرفين، دون أن يحسب موقفا من الحرب أو من الصراع الروسي الغربي كله.
تبقى هناك بعض الآثار الآنية المهمة، التي تتطلب تعاملا سريعا وعلى قدر من البراجماتية لتعظيم الاستفادة وتقليل الخسارة. فمثلا، الدول التي تعتمد على واردات القمح والحبوب من أوكرانيا وروسيا ستجد صعوبة في ذلك الآن. وارتفاع الأسعار سيعني أن موردين آخرين ـ مثل أستراليا وكندا والولايات المتحدة ـ ستحاول الاستفادة من ذلك برفع سعر العقود للدول المستوردة. وهنا يتعين حساب حجم الكلفة الزائدة بشكل عاجل مقابل سياسة استراتيجية على المديين المتوسط والطويل. والعامل الحاسم هنا، هو البدء في تطوير بدائل مستدامة أساسها إما زيادة الإنتاج المحلي من حبوب الغذاء الرئيسية أو الاستثمار في مناطق أكثر استقرارا لتوفيرها. ذلك مع الحفاظ على نهج تقديم المصلحة الوطنية، وربما الإقليمية أيضا في إطار تعاون وتكامل، على أي انحياز مع أي مراكز قوة عالميا سواء التقليدية أو الصاعدة. ذلك التوازن هو أفضل سبيل لتفادي الأضرار على الأقل وربما تحقيق المكاسب على الأكثر.