سعود بن علي الحارثي:
ما الدوافع والمبررات، الأساسات والدعامات، التي تقف عليها المجتمعات العربية وتدعوها وتحفزها على هذا الاشتغال الواسع بالحرب الروسية الأوكرانية حد الثمالة، تحليلا وجدلا وانتصارا وتأييدا لطرف على آخر؟ ما المنافع التي سيجنيها المواطن العادي من تضييع وقته وجهده واهتمامه بحرب لا ناقة له فيها ولا جمل؟ لماذا يجعل العرب من أنفسهم وقودا لصراع مسلح وتجاذبات قوى عالمية لا رابط ولا علاقة لهم بها، وكأنهم جنود في ساحة هم وغاها؟ يشعلون فضاء وسائل التواصل بنقاشات وحوارات جدلية لا طائل منها، وكأن الحرب على عتبة أبوابهم وفي شوارع مدنهم الرئيسة، يحللون ويشخصون، ويختلفون حدَّ الخصام وتبادل الشتائم، يوزعون شهادات النصر والهزيمة على هذا الطرف أو ذاك، يربطون الأحداث والشخوص والمواقف والتصريحات والنتائج بأخرى تسبقها بعقود وسنوات لا صلة في الحقيقة بينها، يمزجون بين هذه الحرب والغزو الأميركي لبغداد والاحتلال الإسرائيل لفلسطين ومواقف دول ورؤساء بشأن ملفات وقضايا العرب، لا يعرف صدقها من زيفها، بل ويدخلون "المثلية والميوعة ومبادئ النظم السياسية والعسكرية وخبرات وأعمار العسكريين..." في مقارنات تدعو إلى الضحك والتعجب، فقط انتصارا للهوى والتعصب والعاطفة وما تتمناه وتحلم به النفس، فيصدقون الإشاعات ويروجون للأكاذيب ويشيعون ما تنسجه أجهزة المخابرات والإعلام لأغراض وأهداف وغايات بعيدة كل البُعد عن تفكير العرب ودوافعهم ومصالحهم وأمنياتهم وسذاجة البعض منهم؟ لماذا يهلل العرب ويصفقون لهذا الطرف أو ذاك ويرفعون له الراية ويصنعون منه بطلا عظيما وشخصا استثنائيا، ويعتقدون بأنه قادر على حسم الحرب لصالحه، وإهانة وتركيع وهزيمة خصمه وإخضاعه لشروطه، هل هي العاطفة التي تقود العرب في تأييدهم لأطراف الصراع، أم قصر النظر وغياب الحكمة وضعف الخبرة وتجاهل دروس التاريخ؟ أم الشعور بالظلم من الأطراف الأجنبية وتجاهلها لقضاياهم وملفاتهم وعلى رأسها دون شك القضية الفلسطينية، ومساندتها ودعمها ووقوفها الدائم مع إسرائيل؟ هل هو الضعف العربي والتخلف والقهر؟ أو أنها بقايا العزة والفخر والكرامة والنخوة والإباء العربي ما زالت تجري في الدماء تقودهم وتدفع بهم نحو دعم وتأييد وتشجيع أي زعيم قوي يفتخر بقوميته ويدافع عن حق بلده ويثأر لكرامتها المهدرة ويظهر قِيمًا ومبادئ يجلها العرب ويحترمونها كما يعتقدون؟ لماذا لم يستفد العرب من دروس الحربين العالميتين الأولى والثانية واحتلال الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، والغزو الأميركي للعراق... التي سحقت كل من هم في موقف "بوتين اليوم"، وعلى شاكلته، ووقفت الشعوب العربية في صفهم؟ هل سينتصر "بوتين" ومن خلفه روسيا لقضايا العرب، وسيصطف معهم ضد إسرائيل، وسيكون أكثر حنية وودا وتفهما وقربا منهم مقارنة بأميركا والغرب، فيما لو تسيد المشهد الدولي، وأصبحت روسيا القوة العظمى الوحيدة في صناعة القرار السياسي وحسم المعارك العسكرية لصالحها؟ هل سيكون العالم أفضل حالا، والعرب سيحصلون على حقوقهم، وتتحول أوضاعهم المزرية إلى الأفضل وتتحقق أحلامهم وطموحاتهم، في عصر قريب لن تكون فيه أميركا والغرب الموالي لها القوة المهيمنة على المشهد الدولي؟ لماذا يتغنى العرب بالنظم الديمقراطية ومبادئها وقِيَمها وممارساتها عندما يزورون البلدان الغربية، ويعدون تلك القِيَم أقرب إلى التعاليم والرسالة الإسلامية، ويستشهدون بمقولة الشيخ محمد عبده عندما طاف البلاد الأوروبية، فقال قولته المشهورة "رأيت في أوروبا إسلاما بلا مسلمين"، ويحتفون بالأخبار والمشاهد والصور التي تتحدث عن زعيم غربي استقال من منصبه لشبهة فساد، وآخر ترك كرسي الرئاسة بعد نتائج انتخابات عزلته من منصبه، أو انتهت فترة رئاسته، وثالث تم استجوابه من قبل البرلمان لأنه قصر وأخل بمسؤولياته وخالف نصا قانونيا؟ يشيدون بالحريات وحقوق الإنسان وقوة المؤسسات وتقدم الجامعات والمدارس والثورات العلمية وسخاء التمويل المخصص للمختبرات ومراكز الأبحاث والدراسات والابتكار... ولكنهم في الحروب والصراعات "الاقتصادية ـ العسكرية" يتخلون عن آرائهم. أسئلة كثيرة تتطلب تحليلا لتفكير بنية العقل العربي ودوافعه ومبرراته لهذا الاشتغال والاصطفاف والتهليل والتكبير وكأنه في ساحة ملعب كروي يشجع فيه فريقه الرياضي على خصمه الآخر... تحليل يدخل فيه الماضوي بأحداث الحاضر وواقعه وانعكاساته والتاريخ مع الجغرافيا، العقل والعاطفة وأيهما المؤثر الأكبر، وخصيصة وتراث العرب وطبيعة الشخصية التي شكلت وكونت هذه البنية وأنماط التفكير... أما الحرب في أوكرانيا فمنذ أن تشكلت كتجاذبات سياسية وجس للنبض وكر وفر في محاولات وجهود للحصول على مكاسب وتنازلات، هي في دافعها صراع قديم بين قوى كبرى طرفاها روسيا التي تعمل على إحياء دورها وتعزيز مكانتها وفرض قوتها والهيمنة من جديد على المشهد السياسي بالتوسع في مناطق نفوذها السابقة وتشكيل سد منيع ومواقع نفوذ عازلة وآمنة تقيها الامتداد الأميركي الغربي ممثلا في حلف "الناتو"، والولايات المتحدة الأميركية التي تسعى منذ عقود إلى محاصرة روسيا وإضعاف دورها وعزلها عن قضايا العالم وتشكيل حلفاء سياسيين موالين لها في البلدان المؤثرة والقريبة من الحدود الروسية، والتي كانت قبل سنوات قليلة جزءا من الاتحاد السوفييتي... وهذا ما عبَّرت عنه في العديد من الحوارات والنقاشات مع عدد من الأصدقاء، وهي من وجهة نظري، ستتحول كذلك إلى حرب استنزاف ستنهك قدرات الروس شيئا فشيئا، بإطالة أمد الحرب ودعم الغرب المتواصل لأوكرانيا، بالأسلحة والصواريخ والأموال لضمان تحقيق أهدافها، فأميركا وأوروبا تديرها مؤسسات مخابراتية ومراكز أبحاث ودراسات عسكرية قوية جدا ومخضرمة، تمتلك الخبرات والمهارات المطلوبة، وسلاحها الذكاء والابتكار والمكر والخداع واستثمار الأزمات لتحقيق المنافع الكبيرة متوسطة وبعيدة المدى، ولديهم المكنة في التلاعب بالخصم وقيادته إلى الشراك، هم لا يهمهم رئيس أوكرانيا ولا حكومته ولا جيشه، ولا مانع لديهم من احتلال الروس لكييف العاصمة، هم يعون بأن حرب العصر هي في حقيقتها وتأثيرها البالغ، اقتصادية، فأسهم شركات سوق المال الروسي تراجعت بشكل كبير، واتخذ في اليوم الأول للحرب، قرارا بإغلاق البورصة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، والروبل كذلك تراجع بنسب مقلقة، روسيا محاصرة بأصدقاء أميركا، والعقوبات الاقتصادية تشمل الشركات ورجال الأعمال واللوبي الاقتصادي وهؤلاء لهم تأثير قوي جدا في السياسة الداخلية، وإذا دخلت روسيا حرب استنزاف فسوف تخرج منها ضعيفة ومنهكة، وهذا بالضبط ما عبَّرت عنه عضوة في مجلس الشيوخ الأميركي التي قالت في برنامج تلفزيوني، قبل أيام، بأن "أميركا قادرة على وقف الحرب ومنع نشوبها لو أرادت ذلك"، لكنها لا ترغب، فغايتها توريط روسيا وإدخالها في مستنقع الحرب العسكرية ـ الاقتصادية، كما فعلت في أفغانستان، وهو الدرس الذي لم تستوعبه روسيا ـ في تقديري ـ للأسف الشديد، وفي اللحظات التي خصصتها لإعداد هذا المقال، كانت الأخبار تتدفق من عواصم العالم ومؤسساته الدولية بمقررات الاجتماعات واللقاءات التي تتجه نحو التصعيد لمحاصرة روسيا، وتبنِّي قرارات وسياسات غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، تتعلق بإغلاق مضايق بحرية ووقف رحلات الطيران إلى روسيا وتمويل أسلحة بملايين الدولارات لدعم حكومة كييف وتخصيص صندوق مالي لتحقيق أهداف الدعم وفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على روسيا تشمل شركات ومصارف ورجال أعمال... وفي ذات اللحظة هبطت العملة الروسية بنسبة تزيد عن ٤١%، ما يؤكد على أن الحرب تسير نحو المزيد من التصعيد والتأزم والتوسع. ما يهمنا نحن العرب، وما يجب أن يشغل تفكيرنا ويضعنا في دور تحمل المسؤولية والدراسة، فهو انعكاسات هذه الحرب على معيشة المواطن وتأثيراتها على حياته المادية والاجتماعية ورصد أسعار السلع والخدمات، خصوصا وأن السلطنة تعتمد بشكل كبير في استيرادها على القمح الروسي، كما تطرحه البيانات والمؤشرات الصحفية، ووضع البدائل والخيارات في حال توقفه أو ارتفاع أسعاره، ودعمه ماليا استثمارا لجزء من فوائض بيع النفط الذي ساهمت هذه الحرب في ارتفاعه في الأسواق العالمية.