يصف البعض التجريب المسرحي بأنه الخروج عن الأنماط التقليدية في العرض المسرحي، وهو شكل من أشكال الحداثة، يسعى إلى تحويل النمطي والثابت في المسرح إلى إبداع فني جديد، ويجنح نحو الذات الحالمة بغية التغيير والابتعاد عن الأطر المسرحية المتعارف عليها.
وكانت بدايات المسرح التجريبي حسبما تشير بعض المصادر الفنية القرن الماضي من خلال التجارب المسرحية القائمة علي التوليف المسرحي ومخاطبة العواطف الإنسانية لدى الجمهور. وقد تجلى ذلك من خلال تجربة البولندي (جروتوفسكي) في معمله المسرحي، كما ظهرت تجارب عديدة للمخرجة السويدية (الكوركراف برجيتا اجربلاد) عن طريق كتابة سيناريو لمسرحيات (اوجست سترندبري)، وهناك أيضا مسرحيات (انطوان تشيخوف) التي تحتفي بجسد الممثل الذي يجيد فن الرقص والتمثيل والغناء واختصار لغة الحوار والاعتماد بشكل كبير على التعبير الحركي.
ولابد للعرض المسرحي التجريبي من مخرج استثنائي، يستهويه التجريب والمغامرة، ليتفرد برؤية إخراجية حرة تبتعد عن المدارس الفنية المألوفة. وعندما يشرع المخرج في تنفيذ عرضه فإنه لابد أن يجرب إخراجه عدة مرات، لأنه في كل مرة يكتشف شيئًا استثنائيًّا يمنح عرضه رؤية إخراجية متميزة. إضافة إلى ذلك فإنه يبحر التجريب في عالم الشخصيات الداخلي باحثًا عن المكبوت، مستشرفًا عالم الحلم، بغية تغير علاقات الشخوص مع بعضها البعض وفق الرؤية البصرية .كما يسعى التجريب لتدمير البنية النصية للمؤلف، والابتعاد عن الفعل الجماعي لتشكيل رؤية فردية، كما فعل رواد مسرح اللامعقول أمثال أرتو، أربال ، أدموف ، بيكيت ، يونسكو ، ألبي .. وغيرهم.
ويعتبر (بيتر بروك) التجريب المسرحي أداة إبداعية حسية حتى لو كانت مجرد ارتجال في طور الإعداد للعرض المسرحي الذي يتكرر في الخشبة أمام المشاهد. ويقوم المخرج في هذا النوع المسرحي بتوظيف أسلوبه الفني بغية معرفة ردود أفعاله تجاه العالم المعاصر، كما تصبح مهمة السينوغرافي في الإخراج التفسيري، وأحيانًا يغدو هو مؤلف العرض المسرحي أيضا. ويسعى بروك إلى التعامل مع المبدعين لنصوص عالمية مثل فاوست لجوتة، ودون كيخوت لسرفانتس، والكوميديا الألهية لدانتي، والذي كان يستخدم فنون الرسم الحديث التشكيلية للتعبير عن الموضوع المسرحي. ومن التجارب العالمية التي أخرجها بيتربروك للمهابهاراتا (الملحمة الهندية) والتي حولها إلي عرض مسرحي.
لذا اختفت الحوارات السردية في العروض الحديثة، حيث أصبحت تعتمد على الإشارات والتعبير الجسدي والأداء التمثيلي أكثر من الكلمة. وهذا جعل دور المؤلف يتراجع إلى الخلف في حين برز دور المخرج، حيث ظهر ما يسمى (المخرج المؤلف)، والذي في الأغلب يستبعد الحوارات السردية ويسعى إلى تحويلها إلى لغة بصرية ملموسة. وهذا المفهوم الجديد جعل الكلمة المنطوقة تحتل حيزا بسيطًا في إطار العمل المسرحي العام، اعتمادًا على نظريات الاتصال الحديثة، التي أكدت أن اللغة الحوارية ليس لها تأثير سوى 25% من مجمل عملية الاتصال، بينما تتقاسم النسبة الباقية 75% مجالات الاتصال الجسدي والتعبيرات البصرية والاستعراض الحركي.
وتولد عن ذلك عروض مسرحية حديثة، انبلجت من رحم التجريب، والتي تقدس الصورة، وتبتعد قدر الإمكان عن اللغة السردية، وتُعد (لغة الصورة) أهم مفردات التي شكلت ما يعرف بمسرح الرؤى، والذي يترجم فيه لغة الحوار من خلال عناصر العرض الأخرى، كالإضاءة والموسيقى وحركة الممثلين ، وتولد عن ذلك نوع من التوازن في إطاره العام. كما أصبحت رسالة العرض غير واضحة، إذ يُعرف هذا المسرح بقدرته على الجمع بين (الصورة والصوت) على اعتبار أنهما جوهري العرض المسرحي الصوري. وينطلق العرض المسرحي من النص ليتحول على يد المخرج إلى دلالات متعددة تصل إلى المتلقي العصري.
وقد تنبأ المسرحي الانجليزي (جوردن كريج) بأن مسرح المستقبل هو (مسرح رؤى) الذي سيخاطب العين والوجدان والأحاسيس عبر الخشبة، واستطاع (كريج) في تجاربه الفنية أن يضع حجر الأساس لانطلاقة هذا المسرح الذي يعتمد على الصورة. وفي نهاية ستينيات القرن الماضي كان المسرحي الأميركي (روبرت ويلسون) أول من قدم عرضًا مسرحيًّا متكاملا ينتمي إلى مسرح الرؤى . ويُعد (مسرح الصورة) مرحلة تأسيسية متجددة، متدفقة، متمردة على المدارس النمطية المسرحية، وهو ذو بُعد جمالي فلسفي يستلهم مفرداته من التيار التجريبي. وهو ينطلق من فضاءات جمالية، أسطورية وطقسية، نابعة من أسس فلسفية عبر محطات الذاكرة الجماعية الإبداعية، حيث تتدفق من الصورة معان فلسفية كبيرة منبثقة من حدس(برجسون)، وجدل (شوبنهاور) وأفكار السرياليين في بيانات (اندريه بريتون) والمساحات اللونية في رسومات الفنان(سلفادوردالي)، كما أنها لا تخلو من أطروحات في الثقافة والميتافيزيقيا واللغة المسرحية في كتابات(انتونان آرتو)...جميع ذلك في النهاية يصب في بنية واحدة لتعلن عن سياقات جمالية، تمثل خطاب الصورة في معانيها الجمالية والعالمية الواسعة.
فضلاً عن ذلك، يسعى "مسرح الصورة" إلى هدم قوانين المسرح التقليدية التي تعتمد على لغة المعادلات الرياضية التوفيقية، بغية الإبحار في عالم الحلم والفنتازيا. وهو في رسالته تلك، يشكل صراعًا ثنائيًّا في زمن العرض الفلسفي بين الجمالي (التشكيل البصري) والدلالي (المفهوم الذهني)، إضافة إلى ذلك، فهو يكشف عن أطر فلسفية تتجاوز الإدراك الحسي، ليرسم عالمًا افتراضيًّا قائمًا على الوحدة الدلالية التي تشكل مفردات الفضاء المسرحي).
ودونما شك، يُعد (مسرح الرؤى) تجربة فريدة تحاول مواكبة لغة العصر الصورية في ظل الطفرة الحديثة في مجالات الفنون والآداب والاتصالات، لذا كان حريٍّا البحث عن شكل مسرحي تمتد جذوره من عالم الأسطورة والخرافة والطقس إلى عصر الحديث حيث الذرة والطاقة النووية والصورة الرقمية في عصرنا الحالي. ويظل (مسرح الرؤى) مثار جدل واهتمام لدى النخبة المسرحية المغرمة بحس التجريب التي تبحث عن الجديد والغريب، فهو فن يخاطب الرؤية البصرية التي تتغلغل للبحث في مفرداته في مخيلة المشاهد لإثارة فينا الدهشة والتساؤل.
وبالرغم من انتشار هذا النوع المسرحي في الغرب، إلا أنه لايزال ضيفًا لطيفًا على وطننا العربي، حيث يميل السواد الأعظم من الجمهور إلى المسرح الحواري، فما بالك بمنطقة الخليج العربي، حيث لم نشاهد تجارب مسرحية لهذا النوع المسرحي، بحكم حداثة التجربة المسرحية الخليجية، بالإضافة إلى انخفاض شعبية المسرح باستثناء الموسمية فيها. والأهم من ذلك غياب المخرج الذي يمكن أن يتبنى هذا التيار في إخراج مسرحيات تجريبية على غرار (مسرح الرؤى) وأن كانت هناك بعض التجارب الحديثة، إلا أنها تظل في منأى عن مسرح الصورة.

عزة القصابية