محمد بن سعيد الفطيسي:
من الواضح أن ردود الفعل الدولية تجاه الأزمة الأوكرانية ـ الروسية مختلفة هذه المرة. بمعنى آخر، إن نسق التصعيد وقوة التنسيق بين القوى الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في مختلف أرجاء العالم بالإضافة إلى حجم العقوبات(1 ) ليس كما كان في السابق. نقول هذا لأن روسيا سبق لها الدخول في أوكرانيا في العام 2014 بعد الاحتجاجات التي حصلت في الميدان الأوروبي بأوكرانيا وانتهت بعزل الرئيس حينها وضم جزيرة القرم في شهر مارس، بالإضافة إلى تاريخ طويل من التدخلات والمواجهة في الساحة الأوكرانية مثل أحداث العام 2003 الناتجة عن بناء سد كريتش ودعم روسيا للمرشح الأوكراني يانوكوفيتش في العام 2004وقطع الغاز الروسي عن أوكرانيا في العام 2006 و2009 والهجمات الانفصالية (حرب الدونباس) في الفترة بين 2015 – 2021، مع التأكيد على أن التدخل الروسي هذه المرة هو أيضا مختلف من حيث الحجم والتوسع والأهداف الاستراتيجية.
على العموم وكما يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية والقوى الأوروبية لهم وجهة نظر مختلفة حيال التعامل مع التدخلات المستمرة لروسيا في أوكرانيا خصوصا، والمناطق المستقلة على الاتحاد السوفيتي السابق عموما، وأصبحت لديهم قناعة أن الدبلوماسية وحدها لن تكون نافعة في مواجهة استمرار التدخلات الروسية، حيث يجب أن تظهر تلك القوى بمظهر الجدية والمصداقية في التعامل مع الصراع الأوكراني الروسي، بالإضافة إلى أن الأحداث في أوكرانيا تمثل فرصة واضحة لإظهار تلك القوى بمظهر الوحدة والتعاون في مواجهة التهديدات الروسية تجاه أوروبا، على أن ذلك لا يمكن ان يتم عبر أي وسيلة عسكرية مباشرة؛ لأن ذلك يعني دخول أوروبا والولايات المتحدة الأميركية في حرب مع روسيا، وهو أمر على ما يبدو ليس واقعيا حتى الآن لأسباب عديدة ومختلفة على رأسها ماذا تعني أوكرانيا للغرب وأميركا، بالإضافة إلى ذلك الآثار والكلفة البشرية والمادية طويلة المدى لتلك الحرب على النظام العالمي والبشرية، وهل أوروبا مستعدة لدفعها بالعودة إلى عقود طويلة إلى الوراء؟
الطرف الروسي هو الآخر ليس بالقوة التي يستهان بها أبدا، أو يمكن مواجهته دون أن تكون النتائج كارثية على الجميع، فروسيا وإن كان هناك حسابات، ربما لم تضع لها أي سيناريو تحوطي كنتيجة طبيعية لأي عملية عسكرية، فإن من غير المقبول القول إن روسيا لم تحسب للأحداث والتغيرات الحاصلة والمواجهة الراهنة أي حساب، فالجميع يعلم أن الامبراطورية الروسية تحمل إرثا من القوة والتاريخ السياسي والعسكري والاستخباراتي، ما يجعلها قادرة على التعامل مع الأحداث الراهنة بكل واقعية، مع التأكيد على حتمية الخسائر المادية والبشرية كما هو الحال في مختلف الحروب والصراعات المماثلة. صحيح أن تلك الآثار لن تقتصر على الحكومة، بل ستمتد إلى البشر والحياة الاجتماعية.
يضاف إلى ذلك أن روسيا هي الأخرى تنظر إلى الطرف الآخر ـ أقصد الولايات المتحدة الأميركية ودول حلف الناتو ـ كتهديد مباشر وصريح لأمنها القومي، وهو ما يستدعي ردود فعل أكثر جدية من وجهة النظر الروسية. بالتالي فجميع أطراف النزاع في الحرب الأوكرانية الروسية الراهنة أصبحت لهم قناعات مختلفة ووجهات نظر غير تلك التي كانت قبل هذه الحرب الأخيرة تجاه العديد من الأحداث والصراعات في القارة الأوروبية، وحتى إلى مستقبل النظام الدولي ككل، ولعل أغلب المراقبين والمحللين، ومن هذا الاتجاه، تولدت لديهم قناعات بأن نهاية هذه الحرب ستكون أطول بالإضافة إلى احتمالية نشوب مواجهة مباشرة بين أطراف الصراع.
إذًا هل ستستمر روسيا في طريق المواجهة والتوغل في أوكرانيا؟ وإلى متى؟ هل ستستمر الولايات المتحدة الأميركية والقوى الأوروبية في مواجهة روسيا عبر العقوبات الاقتصادية وأمثالها أم يمكن أن تنتهي تلك المواجهة بالدخول إلى حرب مباشرة؟ أسئلة عديدة ومختلفة أشبعت بوجهات النظر والتحليلات السياسية، لعل الوقت أو الزمن هو الوحيد القادر على الإجابة على معظم هذه الأسئلة.
على ضوء ذلك ومن وجهة نظر شخصية وحتى ساعة كتابة هذا المقال (اليوم التاسع من التوغل الروسي في أوكرانيا) لا أجد أي إرهاصات واقعية تدل على إمكانية المواجهة العسكرية المباشرة بين روسيا من جهة، والولايات المتحدة الأميركية وأوروبا من جهة أخرى رغم الأحداث الخطيرة. كما يمكن التأكيد على أن روسيا ستستمر في التوغل وستسرع العملية العسكرية حتى تاريخ 13 مارس 2022م على أقل تقدير رغم التبعات والآثار المختلفة. ولعل السؤال الأبرز هنا هو: إلى أي مدى يمكن أن تذهب روسيا؟ على أن السؤال الآخر والأهم هو: ماذا تريد روسيا أن تحقق في أوكرانيا؟ وكيف سيتم ذلك؟ وبمعنى آخر: ما الهدف الرئيسي الذي ترغب تحقيقه روسيا من الدخول إلى أوكرانيا في نهاية الأمر؟( 2) وهل تلك الطموحات الممكنة ـ وإن تحققت ـ يمكن أن يقبلها الداخل الأوكراني والغرب الأوروبي بالإضافة إلى أميركا؟ أم ستتم عرفا فرض سياسة الأمر الواقع؟ لعل هذه الأسئلة وغيرها يمكن أن توضح كثيرا نهاية هذه الحرب وتبعاتها المستقبلية.
وليست هذه المشكلة الوحيدة في هذه الحرب، بل الآثار والتبعات في الفكر السياسي والعسكري الحديث، خصوصا في حال نجاح القوات الروسية في أوكرانيا وتثبيت حكومة موالية لروسيا، القصد: أن هناك دولا تشاهد وتنتظر ردود الفعل الدولية تجاه هذه الحرب أو الأزمة مثل الصين على سبيل المثال لا الحصر، وذلك من حيث إن الصين تواجه قضية مماثلة وهي تايوان، ونجاح روسيا في أوكرانيا وردود الفعل الغربية والولايات المتحدة الأميركية تجاه الأزمة الأوكرانية سيكون لها ما بعدها تجاه قضية تايوان بتصوري على المدى الطويل على أقل تقدير. ولعل الأمثلة على روسيا والصين عديدة حول العالم. يضاف إلى ذلك أن نجاح الروس في أوكرانيا سيضعف التواجد والنفوذ الأميركي في أوروبا، كما سيضع أوروبا في موقف محرج للغاية تجاه الامبراطورية الروسية، كذلك ستتسبب هذه الحرب في حال نجاح روسيا في تغير مفاهيم الأمن القومي تجاه التدخلات في الدول المستقلة لأسباب أمنية أو لحماية الأمن القومي.
باختصار: التدخل الروسي في أوكرانيا تسبب وسيتسبب بأزمات سياسية وأمنية مختلفة، كما سيغير من مفاهيم الأمن القومي التي هي أصلا ضعيفة وغير مستقرة (احتمالية تدخل صيني في تايوان)، وسيفتح جبهات لصراعات وحروب استخباراتية قادمة أشبه ما تكون بالحرب الباردة (بين روسيا وأميركا)، كما سيتم إعادة النظر في قضايا توسع حلف الناتو من جهة، والبيت الروسي القديم من جهة أخرى.
أما بالنسبة لواقع الحرب الحالية ومستقبلها على المدى القريب على أقل تقدير فلا يوجد أي دليل قائم على نهاية قريبة للحرب في أوكرانيا على أقل تقدير حتى منتصف شهر مارس. على اعتبار أن روسيا لم تحقق بعد أهدافها الاستراتيجية في أوكرانيا، كما لا يوجد أي إرهاصات على مواجهة عسكرية مباشرة بين الغرب وروسيا حتى ساعة كتابة هذا المقال على أقل تقدير. ورغم الضغوط السياسية والاقتصادية والتمويل العسكري الكبير للقوات الأوكرانية بالإضافة إلى المساندة والدعم البشري والخبرات الغربية ما زالت القوات الروسية تتقدم، ومن وجهة نظري الشخصية أن لهذه الحرب بالرغم مما سبق سيناريو تفاؤلي سيبدأ مع منتصف شهر مارس رغم التشاؤم الناتج عن خطورة الأحداث وهو المرجح عندي، حيث ستواصل روسيا اللعب على ورقة سياسة حافة الهاوية، والرعب الناتج عن مخاطر محطة زابوروجيا النووية، بالإضافة إلى ورقة الشتاء القادم، وكل هذا يدعم الجبهة الروسية والحلول الدبلوماسية، وأقول إن الوقت ليس في صالح أوكرانيا والولايات المتحدة وأوروبا، "والله أعلم".
ــــــــــــــــــــــــ
مراجع
1 ـ - حجم العقوبات الأميركية الأوروبية هذه المرة كبير للغاية، حيث تتراوح بين عقوبات شخصية على الرئيس بوتين والمسؤولين الروس وأخرى اقتصادية تراوحت بين منع وصول روسيا إلى الأسواق المالية وعزل الصناعات الروسية وتعليق العديد من الاتفاقيات الروسية مع العديد من الدول الأوروبية، كما استهدفت بريطانيا البنوك الروسية، وقد دخلت هذه المرة العقوبات الرياضية في قائمة العقوبات ضد روسيا.
2 ـ - لعل أبرز ما يمكن وضعه على رأس قائمة أهداف بوتين في أوكرانيا هو القضاء على فكرة انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو وعدم نشر أسلحة هذا الأخير على الحدود الروسية، باختصار عودة الناتو إلى حدود ما قبل العام 1997 وهو العام الذي تلاه انضمام العديد من دول الاتحاد السوفيتي السابق إلى هذا الحلف الذي يعد تهديدا خطيرا لروسيا.