خميس بن حبيب التوبي:
لا يبدو في الأُفق ـ حتَّى كتابة هذه السُّطور ـ ما يُشير إلى قُرْب انتهاء الحرب الأوكرانيَّة ـ الروسيَّة، لا سِيَّما بعد أنْ صَعَدَ أطراف المُواجهة الحقيقيون فوق الشجرة، وعَلَا سَقْف مطالبهم، على الأرض الأوكرانيَّة، حيثُ لا صَوْتَ يعلُو على صَوْتِ المُواجهة التي تصمُّ العالم اليوم بقنابل العقوبات الاقتصاديَّة الحارقة، والقذائف السياسيَّة الطَّائشة، والمدافع الإعلاميَّة الخارجة عن السِّياق المِهني ومواثيق الشَّرف الإعلاميَّة المُتعارف عليها؛ لتُؤكِّد أنَّ الآلة الإعلاميَّة لا تقلُّ قوَّةً وخطورةً عن الآلة الحربيَّة، وأنَّ مَنْ يملكهما تَكُنْ لديه القدرة على تمزيق الوعْيِ وغسْلِ الأدمغة، وعلى تمزيق الأجساد.
ويبدو أيضًا أنَّ هناك فهمًا آخذًا في التكوُّن والتوسُّع بأنَّ السَّاحة الأوكرانيَّة ما هي سوى ميدان سيكتب المُنتصِر على أرضه إمَّا شهادة ميلادٍ لعالَمٍ مُتعدِّد القطبيَّة يُحقِّق التَّوازن المفقود، ويمحو تاريخًا امتدَّ لثلاثة عقود من التفرُّد القُطبي الأحادي واختلال الموازين وتحوُّل العالَم إلى بطَّة عرجاء، وإمَّا سيشهد ميدان المُواجهة سيناريوهًا مكررًا ـ كما حدَثَ في أفغانستان في ثمانينيَّات القرن الماضي ـ تُثبِّت فيه القطبيَّة الأحاديَّة تفرُّدها.
القاسم المشترك في جميع المُواجهات ـ التي تخوضها الولايات المُتَّحدة ذات القطبيَّة الأحاديَّة بعد حرب فيتنام ـ هو الحرب بالوكالة مع الاكتفاء بقيادة المُواجهة من الخلْف، وتقديم الدَّعم اللوجستي اللازم كما كان في أفغانستان وليبيا وسوريا، ولا تدخل واشنطن بصورة مباشرة إلَّا حين تتيَقَّن أنَّ الأرض باتتْ مُمهَّدة بحيث تتجنَّب أيَّ خسائر بَشَريَّة أو ماليَّة ترتدُّ عليها. وما يحدث اليوم في أوكرانيا مُشابِهٌ لِمَا حدَثَ في أفغانستان وذلك بتجنيد طرف ثالث بالوكالة. ولعلَّ دعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لإرسال المُرْتزِقة وأصحاب السَّوابق من أوروبا وخارجها إلى أوكرانيا للقتال ضدَّ روسيا الاتحاديَّة ليس من بُناة أفكاره، وكذلك الانخراط الكامل لحِلْف شمال الأطلسي "الناتو" بقيادة الولايات المُتَّحدة في المُواجهة بتقديم الأسلحة الفتَّاكة والدفاعيَّة وغيرها إلى هؤلاء المُرتزِقة والجيش الأوكراني، وهو ما يدحض الحديث عن أنَّ أميركا وأوروبا قد تخلَّتا عن دَعْم أوكرانيا وتركتاها لُقمةً سائغة في فَمِ الدبِّ الرُّوسي؛ ذلك أنَّ رهان الولايات المُتَّحدة كبير في أنْ تتمكَّن من وضْع كمَّاشة على رقَبة الدبِّ الرُّوسي تخنق وتزنق؛ طرفاها العقوبات الاقتصاديَّة القاسية التي تساوي سلاح دمار شامل، والاستنزاف العسكري.
ومَنْ يُتابع مسار الحرب يَجِدْ أنَّ روسيا الاتحاديَّة تقودها بذكاء حتَّى الآن، سواء لجهة ما يتعلَّق بسلامة المدنيِّين ومُحاولة إفراغ مناطق المُواجهة منهم وفتح معابر إنسانيَّة، أو لجهة استخدام أسلحة عالية الدقَّة، والتحرُّك المدروس للسَّيطرة على المناطق المُهمَّة والاستراتيجيَّة من ناحية الشَّرق، وكذلك السَّيطرة على الأماكن العسكريَّة الحسَّاسة كما هو الحال في تشيرنوبل. فالمسار الذي تتَّبعه القُوَّات الروسيَّة ومناطق السَّيطرة يرسم خريطة جغرافيَّة تنقسم فيها أوكرانيا إلى كيانَيْنِ؛ أوكرانيا شرقيَّة وأوكرانيا غربيَّة، مثلما حصل في ألمانيا حقبة الحرب العالميَّة الثَّانية، ورُبَّما هذا أحد الأهداف التي تسعى موسكو إلى تحقيقها؛ بالنَّظر إلى حالة الاصطفاف الغربي ـ الأميركي، وإقامة حكومة مَنْفى أوكرانيَّة في بولندا، ما لَمْ تشهد ساحة المُواجهة تطوُّرات مفاجئة تُغيِّر قواعد اللعبة ومسار الحرب.
الحرب سِجال ـ كما يُقال ـ والجميع قد عضَّ الأصابع بانتظار مَنْ سيبكي أولًا، وأثَرُ العقوبات الاقتصاديَّة لَمْ يبدأ بعد، والجميع أيضًا استطاع امتصاص الصَّدمة الأولى، لكنَّها حتمًا عقوبات لَنْ يقتصرَ وجَعُها بصُورة أو أُخرى على طرف واحد. لكنْ ما لَمْ تضعه أوروبا في الحسبان هو أنَّ هذه الحرب ليست في مصلحتها على الإطلاق، وأنَّ هناك مَنْ خطَّط لتوريطها اقتصاديًّا وعسكريًّا لِتَبْدُوَ دُوَل الاتِّحاد الأوروبي، وخصوصًا ألمانيا وفرنسا، في وضْع اقتصادي مُشابِهٍ لِمَنْ خطَّط وقرَّر قبْلًا الخروج من هذا التجمُّع الاقتصادي الكبير كنَوْعٍ من الانتقام، ومن الوارد أنْ تبدأ الدُّول المُراد توريطها الاستفاقة، لكنْ من المُهِمِّ قَبْل فوات الأوان وتَجرُّع آلام العقوبات، فما هو مطلوب من أوروبا أنْ تَكُونَ كما كانت تابعة وخانعة للإرادة الأنجلوـ ساكسونيَّة.