دبي ـ «الوطن»:
ارتفعت أسعار السلع الأساسية، مع وجود استثناءات قليلة، بشكل ملموس منذ إصدار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوامره بشنّ الهجوم على أوكرانيا، مما تسبب في تغيير حالة الأسواق من مُجرد القلق من محدودية العرض وصولاً إلى اختفاء العرض بشكل فعلي. ووصلت عُزلة روسيا إلى مستويات غير مسبوقة مع ما يفرضه عليها المجتمع الدولي من عقوبات تؤدي إلى قطع واحدٍ من أبرز خطوط الإمداد في مجالات الطاقة والمعادن والمحاصيل الزراعية؛ باعتبار روسيا، وأوكرانيا إلى حد ما، من أضخم موردي المواد الأولية للاقتصاد العالمي.
ورسخت بعض الأسواق الأخرى، مثل الغاز والفحم في أوروبا، مكانتها بشكل كبير مع محاولة تحديد السوق للأسعار بناءً على احتمالات النقص المُحتمل في العرض؛ رغم التركيز الرئيسي على النفط الخام نظراً لأهميته العالمية بصفته من المحددات الرئيسية للتكاليف في الاقتصاد العالمي.
وأشار التقرير الاسبوعي الصادر من ساكسو بنك إلى أن أسعار القمح القياسية في أوروبا والولايات المتحدة تُعد هي الأعلى بين نظرائها منذ عام 2008، مصدراً كبيراً للقلق أيضاً، لا سيما من منظور الأمن الغذائي العالمي.
كما بدأت آثار ردود الفعل القوية وغير المسبوقة على الهجوم الروسي على أوكرانيا تظهر بشكل متسارع في مختلف الدول وليس في روسيا فحسب؛ التي يتهاوى اقتصادها بالفعل مع انهيار أسواق الأسهم فيها بأكثر من 90% قُبيل تعليق التداولات فيها مع وصول الروبل الروسي إلى أدنى مستوياته منذ عشرين عاماً قضاها الرئيس بوتين في الحكم. وأسهمت مشاعر الغضب العارمة وحزم العقوبات القاسية على الصعيد العالمي في تباطؤ تدفق النفط والفحم وغيرها من السلع الأساسية الواردة من روسيا، مع انعدام رغبة المشترين بالصادرات المنتجة والمستخرجة من روسيا.
وسلّطت هذه التطورات الضوء على المخاطر التي يُواجهها الاقتصاد العالمي، لا سيما في حال استمرار فترة النزاع؛ حيث يُرجّح حينها أن ترتفع أسعار السلع الأساسية التي تعاني من نقص في مستويات عرضها إلى مستويات تُؤثر سلباً على جانب الطلب، ما يعزز الحاجة للعودة إلى سوق أكثر توازناً. ولا بد من الإشارة عند هذه المرحلة، خصوصاً مع الإجراءات الاستثنائية التي شهدناها، إلى أنّنا في مواجهة سيناريو قد يُفضي عن نتيجتين مختلفتين؛ حيث يمكن لأيّ حلٍّ مفاجئ يضمن رفع العقوبات أن يدفع نحو تصحيح كبير لمستويات مُختلف السلع الأساسية، مما قد يؤدي إلى عكس المكاسب القوية.
وقال التقرير: يُدرك المتداولون هذه النتيجة، وما يمكن أن تؤدي إليه على المدى القصير من تقلبات إضافية مع تراجع مستويات السيولة والموثوقية. ويُعد متوسط النطاق الحقيقي، باستخدام فترة مراجعة مدّتها 14 يوماً، إحدى طرق قياس مستويات التقلب؛ الأمر الذي يوضح ببساطة نطاق الأسعار اليومي الذي يُمكننا توقعه لأيّ من الأسهم أو السلع، بحيث ترتبط زيادة النطاق طرداً مع ارتفاع مستويات التقلب والغموض. ونجد من خلال استخدام أداة متوسط النطاق الحقيقي بأنّ لدى خام برنت متوسط نطاق يومي متوقع بين 6.5 دولار للبرميل مقابل 2 دولار للبرميل على مدى الأشهر الماضية؛ وبين 24 يورو للطن مقابل 6 يورو للطن بالنسبة لقمح باريس؛ و32 يورو لكل ميجاواط ساعة مقابل 7.5 يورو لكل ميجاواط ساعة بالنسبة لغاز الاتحاد الأوروبي.
كما تتجه أسواق السلع الأساسية في مختلف أنحاء العالم لمزيد من الضيق، مما دفع مؤشر بلومبيرج للسلع الفورية لتسجيل مزيد من الأرقام القياسية. ويُمثل الارتفاع المُذهل بواقع 9.4% المُسجل الأسبوع الماضي الزيادة الأعلى من نوعها منذ عام 1974، عندما تسبب الحظر النفطي الذي فرضه أعضاء منظمة أوبك بصدمة النفط 1973-1974. ونلمس بالنظر إلى منحنيات العقود الآجلة زيادة مستويات التأجيل الطبيعي بالنسبة لمعظم العقود الآجلة الرئيسية للسلع الأساسية، وهو مؤشر يُساعدنا على قياس مخاوف السوق من احتمالية شُح الإمدادات والأسعار المرتفعة التي يُمكن للمشترين دفعها لتأمين التسليم الفوري مقارنةً مع التسليم في مواعيد لاحقة.
النحاس
واصل النحاس، الذي اتسم بمحدودية نطاق سوقه على مدى العام الماضي، ارتفاعه هذا الأسبوع حتى كاد يصل إلى مستواه القياسي المُسجل في مايو الماضي عند 4.89 دولار للرطل؛ حيث حافظ النحاس منذ ذلك الحين على تداولاته ضمن نطاقات ضيّقة، ليُقدم مؤخراً أداءً أدنى من المُسجل على مؤشر بلومبيرج للمعادن الصناعية بحوالي 25%. ويجري هذا في فترة وصلت فيها المعادن الأخرى، مثل الألومنيوم، إلى مستويات قياسية جديدة، مع تسجيل الزنك والنيكل لأعلى مستوياتها منذ عامي 2007 و2011، على الترتيب. وتسببت عوامل، مثل اضطراب الإمدادات الواردة من روسيا وما واجهته المصاهر الأوروبية من ارتفاع كبير في أسعار الطاقة دفعها إلى خفض الإنتاج، في تفاقم القيود الكبيرة المفروضة على جانب العرض في المنطقة. كما تُعد روسيا من أضخم منتجي النحاس في العالم؛ ورغم تراجع الأسعار لعدة شهور جرّاء المخاوف المتعلقة بمستويات الطلب الصينية، يتوجه التركيز حالياً نحو العقوبات الإضافية التي قد تؤدي إلى تراجع مستويات العرض، وما قد يترافق معها من احتمالات تسجيل مستويات قياسية على المدى القريب.
النفط الخام
وأكد التقرير الاسبوعي بأن سعر النفط الخام بلغ يوم الخميس الماضي أعلى مستوياته منذ 14 عاماً، حيث لامس خام برنت عتبة 120 دولاراً للبرميل قبل تصحيحه بقيمة 10 دولارات في ضوء التوقعات بتوقيع الاتفاق النووي الإيراني خلال هذا الأسبوع. وبدأت كبرى شركات النفط العالمية الخروج من السوق الروسية، بما في ذلك شركة بي. بي. ورويال داتش شل للنفط وإكسون موبيل، فيما يتجنب المشترون الخام الروسي لتفادي العقوبات المالية وتكاليف الشحن الباهظة. وتشهد السوق نتيجةً لذلك تقلبات متواصلةً مع تداول أنواع الخام الروسية غير المرغوبة بأسعار أدنى من برنت بكثير.
وقررت أوبك بلس بعد اجتماع قصير يوم الأربعاء الموافقة غير المشروطة على زيادة الإنتاج بمقدار 400 ألف برميل يومياً في أبريل المقبل، الأمر الذي يصعب تحقيقه على أرض الواقع. واتضح لاحقاً بأن غرض هذا الاجتماع يتجلى في المحافظة على استقرار أوبك بلس وليس سوق النفط في ظل تصاعد الهجوم الروسي على أوكرانيا وعدم معالجة مسألة العقوبات المفروضة على روسيا. ويبرزُ ذلك مدى خطورة المسار الذي تنتهجه المجموعة، وربما يلقي الضوء على عدم جدوى الورقة الرابحة الأخيرة للمجموعة، والمتمثلة في السعة الاحتياطية التي توشك على النفاذ. ويتعين اليوم رفع السعر إلى مستويات تساهم في تخفيض الطلب في ظل عدم وجود حلول في المدى المنظور، في حين يؤدي عقد اتفاقية سلام من جهة أخرى إلى خسارة جزء كبير من المكاسب المحققة في الأيام العشرة الماضية. كما شهد الغاز الأوروبي ارتفاعاً لفترة محدودة ليسجل 200 يورو لكل ميجاواط ساعي، وتضعنا الأسعار الحالية، التي تتخطى مستوياتها المتوسطة طويلة الأجل بعشر مرات، أمام مستوياتٍ تنعكس في انخفاض الطلب من الصناعات الثقيلة المستهلكة للطاقة ما يؤدي إلى ضعف النمو وازدياد التضخم. وتلقّت العقود الآجلة لمؤسسة آي سي إي كربون الصدمة الأكبر مع تراجعها بمقدار الثلث عن ذروة شهر فبراير. ويأتي ذلك مدفوعاً بمؤشرات انخفاض الطلب على تعويض الكربون، في حين جاءت سرعة عمليات البيع وعمقها نتيجة تحفيز المضاربين لما كان يُعد حتى وقت قريب أمراً محتوماً، إضافةً إلى ارتفاع الأسعار مع تعزيز السياسيين الأوروبيين لجهود الحد من التغير المناخي. بدورها ارتفعت أسعار الفحم بما يتخطى الضعف منذ بداية العام مع بحث أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية عن بدائل لموردي الفحم الروسي وسعي منتجي الطاقة لإيجاد بدائل عن الغاز الروسي. كما واجه إنتاج الفحم تحديات في مناطق أخرى مع نقص العمالة في الصين ومنجوليا، والفيضانات التي أضرت بحقول التعدين في أستراليا، في حين رسّخ حظر التصدير من أندونيسيا في يناير بدوره ضعف الإنتاج الحالي.
أسعار القمح عند أعلى مستوياتها
وبلغت أسعار القمح أعلى مستوياتها منذ 14 عاماً في شيكاغو، بينما سجلت عقود قمح باريس عالي البروتين أرقاماً قياسيةً يوميةً بلغت ذروتها يوم الجمعة مع وصولها إلى 385 يورو لكل طن، مرتفعةً بنسبة 30% تقريباً عن ذروتها السابقة قي عام 2008. وتسببت الهجمات على سفن الشحن قرب أوديسا في إغلاق مسار البحر الأسود الذي كانت تمر عبره غالبية صادرات روسيا وأوكرانيا من القمح، والبالغة 29% من الإنتاج العالمي؛ ما يُعد تطوراً بالغ الخطورة من منظور الأمن الغذائي العالمي نظراً إلى كون القمح والأرز من أهم المحاصيل الغذائية في العالم. وتبرز دول نامية عديدة في قائمة أبرز عشر مستوردين للقمح في العالم؛ مثل مصر وتركيا وأندونيسيا والجزائر، والتي تشهد جميعها تأثيرات سلبية بالغة بسبب ارتفاع تكاليف المواد الغذائية.
الذهب والفضة
ويتجه الذهب والفضة نحو تسجيل أسعار الإغلاق الأسبوعي الأعلى منذ شهر نوفمبر مع تزايد الطلب على الملاذات الآمنة خوفاً من تداعيات الهجوم الروسي على أوكرانيا والتضخم الناتج عن ارتفاع أسعار السلع عدا عن آفاق ضعف الأداء الاقتصادي المقبل. وأكد جيروم باول، رئيس الاحتياطي الفدرالي، التزام البنك المركزي برفع أسعار الفائدة تدريجياً اعتباراً من الشهر الجاري للحد من مستوى أعلى تضخم حاصل منذ ثمانينيات القرن الماضي. وفضّلت السوق رغم ذلك تجاهل هذه المستجدات مع إمكانية اعتماد نهج أكثر حذراً مع استمرار هذا الهجوم. وتراجعت الإيرادات الحقيقية للسندات الأميركية المستحقة بعد 10 أعوام إلى مستوى -0.9% مما دعم أسعار الذهب، وهي النسبة الأدنى لها منذ مطلع يناير الماضي، استجابةً لتنامي توقعات التضخم والطلب على الملاذات الآمنة والتي قادت لانخفاض العائدات الاسمية.