تمتلك المنطقة العربيَّة وإقليم الشَّرق الأوسط الإمكانات والمُقوِّمات المطلوبة كافَّة لتحقيق الأمن الغذائي وكذلك الاكتفاء الذَّاتي في مطلقه بكُلِّ السلع، خصوصًا الغذائيَّة والمائيَّة منها. ورغم وجود هذه المُقوِّمات يبقى اللُّغز المُحيِّر لمعظم أبناء منطقتنا العربيَّة، لماذا لا نتحرك كشُعوبٍ تجمعها وحدة اللُّغة والدِّين والمَصير والعِرق؛ لتحقيق تكامل اقتصادي، يسعى إلى تحقيق الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي من الغذاء؟ وبقيت تساؤلات بديهيَّة يطرحها أيُّ مواطن عربي مؤمن بِعُروبته عن هذا التكامل وما يَحُول دُونَ تحقيقه، أشدَّ تعقيدًا رغم بساطة طرحها، وسهولة تنفيذها، في منطقة تمتلك المُكوِّن البَشَري النَّابِه في رُبوعها كافَّة، وتمتلك المُكوِّن المادِّي المُكدَّس في بنوك العالم، ناهيك عن الثَّروات الطبيعيَّة والمائيَّة القادرة على أنْ تكُونَ سلَّة غذاء للعالم أجمع، وليس لأبناء المنطقة فحسب، فهذا التكامل المفقود رغم فوائده لأبناء جميع دُوَل المنطقة، أضحى لُغزًا مُحيِّرًا، وتنطلق الحيرة ويزداد الغموض كلَّما كانت الإجابة بسيطة، ولا تحتاج إلَّا عزيمة، تزيد من الروابط التي تجمع هذه الأُمَّة القرآنيَّة، من دِين ولُغة.. بروابط تقوم على المصالح المتبادلة.
إنَّ تقْويَة الروابط الأخويَّة التي تمتدُّ بَيْنَ سكَّان المنطقة منذُ آلاف السِّنين، وصبغها بصبغة المصلحة العامَّة للجميع، أصبح ضرورةً كُبرى، جعلت من بعض الدُّول التي تختلف في اللُّغة والعِرق والدِّين، ولا يوجد ما يربطها غير المصلحة، ورغبتها في تحقيق رفاهية شعوبها، تتوحَّد وتتكامل وتُقيم كيانات كُبرى، لها دَوْرٌ كبير في رسْم الوضع الاقتصادي والسِّياسي حَوْلَ العالم، فالتكامل الاقتصادي وتوحيد الجهود لتحقيق الأمن والاكتفاء الذَّاتي أولًا للغذاء والماء أصبح ضرورةً للمرحلة، فالوطن العربي من المُحيط إلى الخليج يحتاج أبناؤه لهذا التكامل، الذي يقوم على الاحترام المتبادل، وعدم التدخُّل في شؤون الغير، ويُلبِّي احتياجات المنطقة الغذائيَّة أولًا؛ تمهيدًا لتكاملٍ نشطٍ يشمل جميع المجالات الاقتصاديَّة الأخرى.
لَمْ يعُدْ هذا التكامل الاقتصادي العربي رفاهية، فالعديد من الأزمات ومَوْجات الطَّقس التي شهدها العالم في العَقد الأخير كانت مُؤشِّرًا لنا تجاهلناه، فمنذُ فترة ضربت عاصفة ثلجيَّة أكبرَ الدُّول المُصدِّرة للحبوب في العالم، وتأثَّرت المحصولات الزراعيَّة جرَّاء هذه الموجة لدرجةٍ جعلت الأُمَّة العربيَّة تخشى ـ رغم توافر الأموال ـ من حدوث نقْصٍ في السِّلع الغذائيَّة، وشهدت الحواضر العربيَّة كافَّة موجة كبيرة من زيادة الأسعار، أثَّرت على أصحاب الدخول المحدودة، لكنَّنا لَمْ نغتنمْ تلك الفُرصة لإقامة سلَّة غذاء عربيَّة، بسواعد وتمويل عربي، وفي أراضٍ عربيَّة خصبة في السودان ومصر والصومال وجيبوتي والعراق وسوريا... وغيرها من الدُّول التي تمتلك مُقوِّمات زراعيَّة، وتحتاج للتمويل ومصادر طاقة متوافرة أيضًا في الدُّول العربيَّة في قارتَيْ آسيا وإفريقيا.
ومع احتدام الأزمة الروسيَّة ـ الأوكرانيَّة يطلُّ من جديد على منطقتنا شبَح الشُّح الغذائي، وبِتْنا ننتظر موجةً جديدةً من غلاء الأسعار الغذائيَّة، خصوصًا مع قرار الحكومة الأوكرانيَّة، الذي اتَّخذته في وقتٍ سابق، بوقف تصدير العديد من السِّلع الزراعيَّة، حيث علَّقت أوكرانيا صادرات الجاودار والشوفان والدخن والحنطة السوداء والملح والسكَّر واللحوم والماشية، وهو قرار له تأثير سلبي على سوق الغذاء العربي بالتأكيد. وبرغم عودة أوكرانيا لتخفيف وطأة القرار، وأعادت التصدير مع إلزام التجَّار بالحصول على تراخيص لتصدير سِلع زراعيَّة، منها القمح والذُّرة وزيت دوَّار الشمس، وفقًا لوكالة "إنترفاكس يوكرين" للأنباء، إلَّا أنَّ ذلك سيجعلنا نتأثَّر أيضًا، فهذا التأثُّر يأتي نتيجة حرب إقليميَّة تبعد عنَّا مئات الآلاف من الأميال، فماذا نحن فاعلون إن حدثت حرب عالميَّة جديدة؟ وقتها حتَّى وإنْ أخطأتنا القنابل النوويَّة فسنموت جوعى، لذا يَجِبُ التحرُّك العربي بشكْلٍ فردي أو جماعي، لتحقيق ما نصبو إليه من الأمن الغذائي المنشود.