أ.د. محمد الدعمي:
لم يستثنِ الميل الكولونيالي الأوروبي الجارف لتصنيف جميع أقوام الشرق الأوسط من أجل وضعها في فصيلة واحدة مفكرين تقدميين من أمثال كارل ماركس Marx ورفيقه أنجلز Engels، وذلك بملاحظة الأول أن "اليهود أنفسهم لم يكونوا سوى قبيلة بدوية، كالآخرين"، مضيفًا "ثمة صلة عامة يمكن الاستدلال عليها بين جميع القبائل الشرقية. وبينما خص مفكرون مثل آرنولد ونيومان الصفة السامية للأقوام الشرق أوسطية بالاهتمام والتثمين، عمد كارل ماركس إلى نقد نزوعها الروحي، عائقًا، باعتبار رأيه "أن الدين أفيون الشعوب". لا ريب في أن فكرة ماركس عن الشرق الأوسط تتلخص في أنه إقليم شاسع من الصحاري الجرداء تقطنه قبائل من بدوية مرتحلة جلها من العنصر السامي. وتناقض هذه الفكرة اعتداد شعوب الشرق الأوسط بأنها تشترك في تقاليد ثقافية متشابهة وبأنها تستقر في ذلك الإقليم "المبارك" من الأرض الذي يعج بالروحانيات المحيطة بظهور الأديان "المنزلة" الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام)، أي الأديان السماوية التي يفترض أن تغلق قصص الديانات والعقائد الكثيرة التي أشاعها معلمون وأدعياء نبوة عدة من هؤلاء الذين استجابوا لبحث إنسان الصحراء عن أساس للتيقن الروحي عبر الخلاء اللازمني واللامحدود للصحاري، غير واعٍ بما تختزن أرضه من نفط تحت كثبان الرمال المتحركة. إن رسل الله والأنبياء والمعلمين الروحيين المذكورين في الكتب المقدسة والتواريخ الموضوعة التي خطها شيوخ المؤرخين في العصر الوسيط تضع القارئ الحذق أمام سؤال محير، وهو: لماذا تم توجيه هذا العدد الكبير من الأنبياء، زيادة على سواهم من المعلمين الروحيين إلى هذه الأقوام التي تقطن هذا الإقليم بالذات، وليس إلى سواها من الأقوام في بقاع الأرض؟ هل كان هؤلاء المرسلون رموزًا لغضب الرب، يعبِّرون عن نفاد صبر السماء مع هذه الأقوام "المتمردة" التي كانت من العنت والعصيان درجة أنها لم تستجب للفضائل الدينية وللإصلاح الأخلاقي من ديانة أو رسالة واحدة؟ تشير المصادر التاريخية العربية، زيادة على القرآن الكريم، إلى عشرات الرسل الذين بعثهم الله، ناهيك عن الفرضية (أو الأسطورة) القائلة إن آدم وحواء قد وجدا نفسيهما في موقع ما جنوب وادي الرافدين بعد سقوطهما من الجنة، باعتبار أن بلاد الرافدين كانت حقبة ذاك "جنة عدن" حسب المصادر الإغريقية والرومية، كما لاحظنا ذلك في مناسبات عدة.
تطلق أية إشارة إلى "جنة عدن" في المصادر الإنجيلية والأوروبية القديمة للمرء رؤيا لجنوب وادي الرافدين في تلك الأزمنة في صورة "حديقة" غنَّاء خصيبة، مثالية لبدايات الحضارة الإنسانية؛ لأن هذا الوادي مسطح كبير تخترقه الأنهار الدائمة الجريان لتشكل مع فروعها وروافدها شبكة سقاية طبيعية بين النهرين العظيمين، دجلة والفرات، اللذين بقيا يحملان الطمي بتيارهما من جبال تمتد حتى أرمينيا والأناضول وكردستان إلى بلاد الرافدين منذ أقدم الدهور من أجل أن يزدهر الإنسان ويبدع. تتواشج تواريخ بلاد الرافدين مع تواريخ الوديان الخصيبة الأخرى كالنيل والسند، مع إشارة خاصة إلى علاقة الصراع بين الإنسان والماء. إن أرض الرافدين حاضنة مناسبة للإنسان، خصوصًا وأنها تجدد خصبها وحيويتها موسميًّا بواسطة الفيضانات "المدمرة" التي صنعت التاريخ والإنسان هناك، أي عندما حاول الإنسان السيطرة على فائض المياه لتذليلها للوجود الاجتماعي المستقر؛ كي تزدهر حضارة الإنسان، فينتقل من طور جمع القوت إلى طور إنتاج القوت. لقد وجد الإنسان "الصياد" أن من الأفضل له أن يستقر ويزرع الأرض مقارنة بالبقاء جوالًا يبحث عن العشب أو الفرائس. لذا ظهرت أول المستقرات الرافدينية في تاريخ البشرية: أول قرية وأول مأوى عائلي وأول قوس بناء وأول عجلة وأول ملحمة أسطورية وأول قطع أراضٍ زراعية. ولا تقل أهمية عن ذلك كله، كانت أولى الأدوات التي تطورت (على أغلب الظن) من تحويرات أدوات العصر الحجري التي سبق أن كانت تنحت من الصخور. وإذ فعلت تلك القرى الأولى فعلها في جذب البشر صوبها، فإنها سرعان ما راحت تتوسع جغرافيًّا وسكانيًّا متحولة إلى نوى لدويلات المدن الأولى التي اتسعت بسرعة درجة ظهور الحاجة للتشريعات والقوانين في سبيل تنظيم الوجود الاجتماعي الحضري الأكبر. لذا ظهرت أولى لوائح القوانين التي جمعها حمورابي الإمبراطور البابلي في مسلة: لقد سبقت قوانينه جميع لوائح القوانين في التاريخ. أما بالنسبة لدويلات المدن المذكورة أعلاه، فقد دخلت في مرحلة حروب تنافسية فيما بينها من أجل التوسع والضم، الأمر الذي يضطر الباحث إلى التساؤل فيما لو أنها كانت أول أشكال المناطق المحمية بالميليشيات التي ما فتئت تطفو على صفحات تاريخ الشرق الأوسط مذاك.
كانت بلاد الرافدين أرضًا معطاءً سعيدة، حيث مدَّ الإنسان الجسور بين الأرضي والسمائي؛ أي بين الجسدي والروحي، ذلك أنه لم يكن من المستحيل أن يتردد الإنسان الأرضي على الإلاهات الساكنات على قمم الزقورات في زياراته ليستولد أنصاف آلهة منهن، مثل "جلجامش" الذي أنشئت أول قصيدة ملحمية في التاريخ على فكرة تطلعه للخلود.
كانت ملذات هذه التجارب الحميمية بدرجة من القوة أنها جعلت الرافدينيين يقطعون نصف المسافة بين الإنسان والإنسان الخارق Super Man. والحق، فإن هذا هو المفهوم الجوهري لفكرة "ملحمة جلجامش" التي تسرد قصة بحث ملك أوروك السومري عن عشبة الخلود عميقًا في مياه الأهوار جنوب بلاد الرافدين، حيث يقيم عرب الأهوار (أو المعدان) حتى هذا اليوم.