د. جمال عبد العزيز أحمد:
كلما هلَّ شعبان ازداد القلبُ شوقًا، لأنه شهر الرسول الكريم، الذي كان يكثر فيه الصيام، والقيام، وتلاوة القرآن، الشهر الثامن من الشهور القمرية، الشهر الذي يسبقه رجبٌ الفرد شهر الله، ويعقبه رمضانُ الفضيلُ، شهر الطاعة، والثواب، والاجتهاد، والجواب، شهر رمضان الفضيل حيث تتويج العمل طيلة أِشهر ثلاثة بليلة القدر.

وتدور مادة (شعبان) في اللغة، ومعاجمها حول معانٍ عدة، لا تخرج في معظمها عن المعاني الآتية: الشغل، والنَّزْع، والافتراق، والاشتياق، والإرسال، والصرف، والإصلاح، ولمِّ شعثِ الشيء، والصدع في الشيء، وإصلاحه، والتفرق، والتشعُّب، يقال: تشعَّب الشيءُ: انتشر، وتداخلَ، كما تدور كذلك حول التباعد، والاستغراق، جاء في الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية:(مادة شعب، ص600):(وشَعَبْتُ الشيءَ: فرقتُه، وشَعَبْته جمعتُه، وهو من الأضداد، تقول: التأم شعبهم: إذا اجتمعوا بعد التفرق، وتفرَّق شعبهم: إذا تفرقوا بعد الاجتماع)، قال الطرماح بن حكيم:

شَتَّ شَعْبُ الحيِّ بعد التئامْ

وشجاك الربعُ ربع المقامْ

وفي الحديث:(ما هذه الفتيا التي شَعَبْتَ بها الناس؟) أي: فرقتهم، والتشعب: التفرق، والانشعاب مثله، وأشعب الرجل: إذا مات أو فارق، قال فراقا لا يرجع، وشعبان اسم شهر والجمع شعبانات.

وقد سمَّاه العرب بهذا الاسم (شعبان) لأنهم ـ فيما يقال في سبب تسميته ـ كانوا يتشعَّبون فيه بحثًا عن الماء، ويتفرقون هنا وهناك، وقيل: لتشعبهم في الغارات، والحروب، وانتشارهم، ويقال كذلك في سبب تسميته بشعبان أنه شَعَبَ، أي ظهر بين شهر رجب، وشهر شعبان، لأنهما شهران مشهوران فقد ظهر بهما.

أما عن فضائله، وما يمكن أن تنقله إلينا الأحاديث النبوية من قيمه، وتربوياته فهو شهر الصيام، وشهر الطاعة، وقد قال فيه العلامة ابن رجب:(إن صيام شهر شعبان أفضلُ من صيام الأشهر الحرم، وأفضلَ التطوع ما كان قريبًا من رمضان قبله، وبعده، وتكون منزلتُه من الصيام بمنزلة السنن، الرواتب مع الفرائض قبلها، وبعدها، وهو كتكملة لنقص تلك الفرائض، وصيام ما قبل رمضان وبعده، وتكون السنن الرواتب أفضلَ من التطوع المطلق بالصلاة، فكذلك سيكون صيام ما قبل رمضان، وبعده أفضل مما بَعُد عنه).

وقد كان الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) يكثر فيه من الصيام كثيرًا، وذلك ما روتْه أم المؤمنين السيدة عائشة ـ رضي الله عنها وأرضاهاـ حيث قالت:(كان رسول الله يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان) (رواه البخاري برقم: 1833)، و(رواه مسلم كذلك برقم 1956).

وهنا نتوقف عند هذا القول الكريم الذي يرصد السلوكَ النبويَّ رصدًا دقيقًا، فهي ـ رضي الله عنها ـ تراه يواصل الصيام حتى يظنوا أنه لن يفطر في أي يوم في شعبان كناية عن مداومة الصوم يوميا، وفي الوقت نفسه يفطر بشكل متواصل حتى يظنَّ أنه لا يصوم، كناية كذلك عن مواصلة الفطر، وفي ذلك تعليمٌ لنا أن نعلِّم أبناءنا أن يمتلكوا عزائمهم في أن يواصلوا الطاعة، ويداوموا عليها فترات طويلة، وإذا لم تكن فريضة، فإنه يمكنهم أن يتركوها فترة، حتى لا يُظَنَّ أنها فرض واجبٌ، دائمٌ، متواصلٌ، لا يجوز تركه، ولا يستحيي الواحد من تركه لأنه عبادة.

كما أنه يعلمنا الإخلاص في وصف ما نراه بكل دقة وألا نزيد أو نبالغ، فالسيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ حكتْ بكل دقة عن سلوك الرسول الكريم، ومنه أخذنا هذا الحكمَ الفقهيَّ في صيام معظم شهر شعبان، وأن الرسول كان أكثر صياما فيه من غيره من الشهور، ولكنْ لا نصومه كلَّه؛ حتى لا نسويَ بينه، وبين شهر رمضان الذي يجب على القادر الصحيح الذي لا عذر له من مرض أو سفر أو نحوه، الذي شهد الشهر فيه أن يصومه تاما كاملا مستوفًى، فيتعلم أن يكون أمينًا في النقل، مؤتمنًا على الشرع، ناقلًا يتقي الله في كل نقل، ومنه كذلك ما رواه سيدنا أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ أنه سأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال:(يا رسول الله، لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم:(ذاك شهر يغفل الناس فيه عنه، بين رجب، ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم) (رواه النسائي).

وهنا نأخذ من هذا الحديث الذي رواه أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ جملة من القيم، والتربويات، منها: أن المرء عندما يغمُّ عليه أمر في مسألة ما، ويرى مَنْ يكون أهلا للجواب عنها، فلا يتأخر، ولا يستحيي من السؤال، وفي الكتاب العزيز:(فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النحل ـ 43)، وقال ـ جلًّ جلاله:(وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (فاطر ـ 14)، ومنها أن المُسْتَفْسَرَ منه يجيب سائله بكل دليل ممكن، ويبيِّن للمتعطش للجواب ما يشفي نهمته، ويلبِّي حاجته، ورغبته، ويضع له الأمر واضحًا تمامَ الوضوح بحيث يمضي السائل حامدًا ربه على سعة الجواب، ووضوح القول، وتمام البيان، ومنها أن شهر شعبانَ لكونه بين شهر رجب ـ وهو من الأشهر الحرم ـ المنصوص على إجابة الدعاء فيها، وأنه من الأشهر التي يُضاعَف فيها الثواب، وأن شهر رمضان هو شهر العبادة، ومضاعفة الأجور، وفيه العشر الأواخر التي فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وفيه من الفضائل ما فيه ـ يأتي شهر شعبان بينهما، وكأن الناس فيه تتغافل عنه، وتنسى قدرَه، وتغفل عن مقامه بين هذين الشهرين، ولأنه ليس من الأشهر الحرام، وأن الكثير قد لا يعرف وزنه، ومكانته، فوضَّحها لنا الرسول الكريم، وبين قدره، ووزنه عند ربه، ونقل إلينا فضله كاملًا، ومنها أن يوضِّح العالمُ لمن يعلِّمه الأمرَ الذي يغفل عنه، هو أو غيره، وينبههم عليه، ويبصرهم بغفلتهم لينهضوا به، ويعرفوا قدر ما بين أيديهم مما تغافلوا عنه، ولا يُحسنون العلم به، ولا يدركون أهميته، فقد تعلَّمْنا تلك القيمة من الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، ومنها بيان جلال، وقدْر شهر شعبان في أن أعمال العباد تتجمع طيلة تلك الشهور، ولا ترفع إلى رب العباد إلا في هذا الشهر الفضيل، فهو شهرُ رفع الأعمال إلى الله، وشهرٌ يتشرف فيه العبدُ بعرض أعماله طيلةَ السنة على ربه، ليراها ـ وهو بها عليم ـ لكنها تُرفَع في كتابه، ليقرَأَه يوم القيامة، ويفرحَ بثواب ربه، ومنها أن الأعمال التي تقدم الأفضل أن تقدم وصاحبها في طاعة، فالرسول الكريم ـ رغم أن الله قد غفر له ما تقدم من نبه وما تأخر ـ يحب أن يرفع عمله إلى ربه وهو صائم، أي طائع عابد مخبت مقر يبتغي رضا الله بالصيام، فنتعلم عند تقديم العمل أن يكون الجو والشخص طاهرًا، يقدم مع عمله كل أسباب القبول من الإقرار والإخبات والطاعة والتسليم والعبادة والصوم.. وغيرها من الأمور التي تجعل عمله مقولا عند ربه، غير مردود بإذن الله، ومنها أن المساءلة فردية، وأن كل إنسان مسؤول عن عمله، ولا تزر وازرة وزر أخرى (أحب أن يرع عملي وأنا صائم) كلها بصيغة المفرد، والمساءلة فردية لا يتحمل أحد وزر أحد:(وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى)، (وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا)، (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، فالمسؤولية شخصية، والمساءلة فردية، وكل مسؤول عن نفسه، والعاقل من عمل لآخرته، وقدم لحياته.

والخلاصة: إن شهر شعبانَ أنه شهرٌ يتوسط شهرين معروفين في الفضل، والثواب، وقد يكون مظنة الراحة، وعدم العمل، أو الكسل، أو التغافل، فيأتي الحديث الشريف ليبين أهميته، وعظم حقه، وقدره، فالصيام فيه له فضلٌ كبيرٌ، ويكفي أن نستنَّ فيه بالرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، ويكفي كذلك أنه شهرُ رفعِ الأعمال، ورفعُ العمل ينبغي أن يكون محوطًا بالطاعة، محفوفًا بالتوبة، والتضرع، مشمولا بالدموع والوجل والخشية.

نسأل الله أن تُرفَع أعمالُنا إلى ربنا، وهي سببٌ في مغفرة الله رب العالمين، وأن تكون محلَّ قبولٍ، ورضا، وتوفيق، وكل عام وأنتم بخير، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية.

[email protected]