محمود عدلي الشريف:
القراء الكرام.. إننا نستقبل شهرًا مباركًا له من المميزات والخصوصيات الكثير.. فيما يلي ذكره إن شاء الله تعالى، فهو شهر شعبان، ذلكم الشهر العظيم شهر شعبان الذي هو منحة ربانية بزيادة إيمانية وشحنة تعبدية وهبَّة توعوية، ينبغي على المسلم ألا يضيعها، بل يجب عليه أن يغتنم جميع أوقات هذا الشهر من أيام وليالٍ في كل جنبات الخير، فقد (كان الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ـ يشيع السلام في الزمان والمكان، وعلى سبيل المثال كان ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َـ أكثر الناس صياماً في شعبان، ولما سأله الصحابة عن هذا أخبرهم أن شعبان شهر يهمله الناس لأنه بين رجب، وهو من الأشهر الحرم الأربعة وبين رمضان، فأحب أن يحيي ذلك الشهر الذي يغفل عنه الناس، فكأن رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َـ أراد أن يسعد الزمان بأن يشيع فيه لونًا من العبادة فلا يجعله أقل من الأزمنة الأخرى) (تفسير الشعراوي 2/ 884).

ومن أول التقرب الى الله تعالى بالطاعات، والتسابق في الصالحات، وزيادة الاستغفار، وذكر الملك القهار، وتلاوة القرآن والصلاة والسلام على الرسول العدنان ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإخراج الصدقات في فعل الخيرات، وكثرة الصيام، وصلة الأرحام، والصلاة بالليل والناس نيام.

فشهر شعبان ـ أيها الإخوة الكرام ـ هو بمثابة معسكر تدريب لتنشط وتهيئة الأروح والقلوب والأفئدة والأنفس والأبدان، ودحرا لكيد الشيطان ووساوسه، وإذابة لثلوج الخمول والكسل، وإشعالا لفتيل الهمة والحيوية والنشاط، وهنا سؤال يطرح علينا نفسه قائلا: لماذا اهتم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بشهر شعبان خاصة؟ والحقيقة أن الجواب على هذا السؤال لا يخفى على أحد، فهناك جملة من الأحاديث الشريفة والآثار الواردة التي تدل على أن رسول الله ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ كان يعظم شهر شعبان ويكثر الصيام فيه، وما ذاك إلا لفضيلة هذا الشهر وعظم ثواب الطاعات والصيام فيه، وقد جمع العلماء لهذا الشهر من الفضائل الكثير، فمنهم مثلًا:(الْمُحب الطَّبَرِيّ) وَجمع فِيهِ سِتَّة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه كَانَ يلْتَزم صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر، فَرُبمَا تَركهَا فيتداركها فِيهِ. ثَانِيهَا: تَعْظِيمًا لرمضان. ثَالِثهَا: أَنه ترفع فِيهِ الْأَعْمَال. رَابِعهَا: لِأَنَّهُ يغْفل عَنهُ النَّاس. خَامِسهَا: لِأَنَّهُ تنسخ فِيهِ الْآجَال. سادسها: أَن نِسَاءَهُ كن يصمن فِيهِ مَا فاتهن من الْحيض فيتشاغل عَنهُ بِهِ، وَالْحكمَة فِي كَونه لم يستكمل غير رَمَضَان لِئَلَّا يظنّ وُجُوبه. فَإِن قلت: صَحَّ فِي مُسلم: أفضل الصَّوْم بعد رَمَضَان شهر الله الْمحرم، فَكيف أَكثر مِنْهُ فِي شعْبَان؟ ويعارضه أَيْضا رِوَايَة التِّرْمِذِيّ:(أَي الصَّوْم أفضل بعد رَمَضَان؟ قَالَ: شعْبَان). قلت:(لَعَلَّه كَانَ يعرض لَهُ فِيهِ إعذار من سفر أَو مرض أَو غير ذَلِك، أَو لَعَلَّه لم يعلم بِفضل الْمحرم إلاَّ فِي آخر عمره قبل التَّمَكُّن مِنْهُ، وَلِأَن مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ لَا يُقَاوم مَا رَوَاهُ مُسلم) (عمدة القاري شرح صحيح البخاري (11/ 84).

إخوة الإيمان: وقد أرشد الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) عن فضل هذه الأيام المباركة ونبه المؤمنين أن بعض الناس يغفلون عنه، عن أسامة - رضي الله عنه - قال:(قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ عَنْهُ النَّاسُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ العَالمِينَ، وَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي، وَأَنَا صَائِمٌ) (أخرجه النسائي برقم: 2357)، وفي حديث أسامة هذا التصريح بأنه تعرض فيه الأعمال، حيث قال (عليه الصلاة والسلام):(ذاك شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال) (شرح كتاب الصوم من صحيح البخاري، ص: 170)، وعللها النبي (صلى الله عليه وسلم) (بأنه شهر يغفل عنه الناس ما بين رجب ورمضان، هكذا أوقات غفلة الناس تضاعف فيها الأجور، وعند ذلك تكون العبادة أشق، والنية خالصة، والرغبة وافرة من عباده مع قربه تعالى وتقدس) (تفسير القرآن الكريم - المقدم 22/ 14، بترقيم الشاملة آليًا). ولهذا فإنني أبدأ بنفسي وأدعو كل مسلم ألا يكون من الغافلين عن فضل هذه الأيام المباركة الميمونة، فلا شك أن أهل الغفلة في يتيهون في غفلتهم، فيسير بهم قطار العمر وتمضي بهم الأيام ولا يلتفتون لمن يطيع الله ولا من يعصيه، فعن ابن عمر - مرفوعًا (ذاكر الله في الغافلين كالذي يقاتل عن الفارين، وذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء في وسط الشجر الذي تحات ورقه من الصريد) والصريد: البرد الشديد، و(الذاكر الله في الغافلين يغفر له بعدد كل رطب ويابس، وذاكر الله في الغافلين يعرف مقعده من الجنة) (فتح الباري لابن رجب 4/ 376)، وجاء في كتاب (التحبير لإيضاح معاني التيسير 6/ 256):(علَّ المراد بغفلتهم عنه أنهم لا يعظمونه كما يعظمون رجبًا بالعتيرة فيه، والاحترام له لأنه من الحرم إلاَّ أنهم يغفلون عن صيامه مع صيامهم رجبًا، فلما غفل عنه الناس عظمه - صلى الله عليه وسلم - بصيامه إياه، ثم ذكر من أسباب صومه: قوله:(إنها ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين)، ويأتي أنَّها تعرض الأعمال على الله يوم الإثنين، ويوم الخميس، وعللّ (صلى الله عليه وسلم) صومها بذلك، كما علله في صوم شعبان، والجمع بينهما أنها تعرض وترفع في شعبان أعمال السنة، وفي الإثنين والخميس أعمال ما بينهما، وهما من الأيام، أو أنها تعرض في اليومين ولا ترفع إلاَّ في شعبان، فماذا أنت فاعل أيها المؤمن؟ هل تحب أن يرفع عملك وأنت في غفلة؟ أم هل تحب أن يرفع عملك وأنت في طاعة لربك وهو راض عنك غير غضبان؟!.

ولهذا أردت أن أذكر نفسي وأياكم بهذا الأمر، حتى نستقبل رمضان ونحن في اعتياد كامل على الطاعة والعبادة وبزيادة، هذا فضلًا عن أن الطاعة ترفع عنك وعن أهلك غضب الله تعالى وتنزل بكم رحمته وعلى خلقه جميعًا، (حكى مكي أن أكثر المفسرين على أن المعنى: لولا أن الله يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يتقي عمن لا يتقي لأهلك الناس بذنوبهم، وقال سائر المفسرين: ولولا دفاع الله المؤمنين الأبرار عن الفجار والكفار لفسدت الأرض، أي: هلكت)، وذكر حديثا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:(إن الله يدفع العذاب بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما أنظرهم الله طرفة عين- ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)، وعن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:(إن لله ملائكة تنادي كل يوم لولا عباد رُكّع وأطفال رُضّع وبهائم رُتّع لصبَّ عليكم العذاب صبًّا) (خرّجه أبو بكر الخطيب)، (تفسير القرطبي 3/ 260). وجاء في الأثر: إن الله ليدفع بالرجل الصالح عن أهله وولده من حوله، أو (إن الله ليدفع بالرجل الصالح عن مئة من أهل بيته من جيرانه البلاء) (معجم ابن عساكر 1/ 162).

وما أحوجنا إلى طاعة ربنا في هذه الأيام المباركة أن يرفع الله تعالى عن بلادنا كل شر وضر.. وللحديث بقية.



*[email protected]