د. أحمد مصطفى أحمد:
لا تقتصر حرب الإعلام والمعلومات، ضمن الحرب الدائرة في شرق أوروبا منذ بدء روسيا غزو أوكرانيا، على تصريحات السياسيين وأخبار وتحليلات وسائل الإعلام التقليدي. بل إن التلفيق والتزوير أفضى إلى وضع أشد خطورة مما حدث خلال عامي وباء كورونا الماضيين. وتلعب وسائل التواصل ومواقع الإنترنت دورا أساسيا في نشر ذلك التضليل بما له من تأثير طويل الأمد على تشكيل الوعي وتحديد المواقف. وبغضِّ النظر عن سياسات ومواقف الحكومات في دول العالم المختلفة من حرب أوكرانيا، والتي تعتمد أساسا على تقديم مصالح بلادها وشعوبها وليس على الإشاعات وحملات الدعاية والحشد المعنوي، فإن مواقف الناس العادية من الحرب الأوكرانية لا تتسق مع ذلك الخط الرسمي تماما.
جاءت حرب أوكرانيا لتعزز توجُّهًا ساد في وقت أزمة وباء كورونا، خصوصا عبر الإنترنت وعلى مواقع التواصل، يقدم "رواية" مختلفة عن الخط الرسمي العام الذي سعت السلطات من خلاله إلى مكافحة الوباء بإجراءات بدت صارمة، لكنها ضرورية للحدِّ من انتشاره وتقليل أضراره على الصحة العامة وحياة البشر في مختلف أنحاء العالم. واتسمت تلك الرواية بالشطط المبالغ فيه إلى حدِّ ترويج "نظريات المؤامرة" وتضليل الجماهير؛ كي لا تلتزم بالإجراءات الوقائية، لكن الواقع أن أغلبية سكان الأرض التزموا إلى حد كبير بما مكَّن البشرية من تقليل الأضرار وقرب التغلب على المرحلة الحرجة من الوباء. فمن التلفيق بأنه "ليس هناك وباء، وأنها محاولة للتحكم في البشر" إلى مقاومة تلقي اللقاحات باعتبارها "محاولة لزرع شرائح إلكترونية في أجسامنا" على طريقة أفلام الخيال العلمي، انتشرت موجة واسعة من التضليل وترويج الجهل.
كانت تلك مقدمة لاعتماد البعض الأسلوب ذاته في مواجهة السرد الرسمي بشأن حرب أوكرانيا. وساعد على ذلك التهويل المضلل من قبل الغرب والبلد الذي يتعرض لهجوم والدس المعلوماتي من قبل الطرف الآخر في محاولة من المعتدي لتبرير عدوانه على نشر وترويج تلك الموجة من التزييف عبر مواقع التواصل. فظهرت حملات، من مواقع مريبة، تقول مثلا إن الأميركان والفرنسيين والألمان كانوا يقومون بتطوير أسلحة بيولوجية في أوكرانيا وإن الروس دمروا أكثر من دستة من تلك المواقع في حربهم على أوكرانيا. ولا ننسى أنه منذ عامين فقط كانت تلك واحدة من النظريات التي لاقت رواجا حول تمويل الأميركان والفرنسيين لأبحاث معهد الفيروسات في ووهان الصينية لتطوير سلاح بيولوجي من فيروس كورونا، وأن تسرب الفيروس نجم عن ذلك الاستثمار المشترك. وغالت نظريات المؤامرة في أن الروس إنما يريدون منع أوكرانيا من استخدام أسلحتها النووية. ذلك رغم أن الأسلحة النووية في أوكرانيا، وهي كانت من ترسانة السلاح السوفييتي قبل تفككه، تم التخلص منها نهاية القرن الماضي وبالترتيب بين الغرب وروسيا في إطار استقلال أوكرانيا ودول الاتحاد السوفييتي السابق. وكل المفاعلات النووية في أوكرانيا هي مفاعلات لتوليد الطاقة، كما في فرنسا والسويد وألمانيا وغيرها في أوروبا.
يستفيد الإعلام الغربي نسبيا من بعض تلك التلفيقات لحشد الرأي العام ضد روسيا، وشيطنة رئيسها فلاديمير بوتين باعتباره "الديكتاتور عدو البشرية" إلى حد تشبيه البعض له بالزعيم النازي الألماني أدولف هتلر. ولهذا أيضا تأثير "مشاعري" مهم، إذ إن التذكير بهتلر يحمل دلالة محرقة النازيين لليهود، وهو ما جعل رئيس أوكرانيا يستنجد بيهود العالم متَّهمًا القوات الروسية بقصف موقع تذكاري للمحرقة في كييف، كشف صحفي إسرائيلي على الفور أنه لم يتعرض لأي أذى، وأن النصب التذكاري والحديقة المحيطة به على حالها ومفتوحة للناس. وذلك مثال آخر على كيف تستمد حملات التضليل ونظريات المؤامرة على الإنترنت مادتها الأساسية من دعايات فجة من المسؤولين والإعلام التقليدي.
الأهم هنا، هو ما تلمسه من متابعة محتوى الإنترنت ومواقع التواصل باللغة العربية، والذي يبدو في أغلبه ميالا نحو موقف روسيا أكثر منه نحو أوكرانيا والغرب الذي يسعى لحصار روسيا وخنقها اقتصاديا. ربما يرى البعض، غالبا من مدعي الليبرالية أو المتأثرين بتوجُّهات عنصرية غربية ومواقف اليمين المتطرف الصاعد في الدول "الديموقراطية"، أن ذلك يعكس ميل العرب لحب الديكتاتور. وأن بوتين يُمثِّل لهم ما كان يُمثِّله قيادات قضى عليها الأميركان والإنجليز مثل صدام حسين ومعمر القذافي. ومن متابعتي، التي لا أدعي أنها شاملة وكاملة، لما يتداوله العرب على الإنترنت، وخصوصا مواقع التواصل ـ من سخرية وإعادة نشر افتراءات وتلفيق يمكن القول إنه ليس حبا للديكتاتور أكثر منه "تشفيا" في الغرب وخصوصا الأميركان والإنجليز. فأغلب السخرية واقعية هي تلك التي تقارن بين الحروب العدوانية التي شنها الغرب على بلدان ما يسمى "العالم الثالث" وكم التدمير وإزهاق ملايين الأرواح. وقد كان نصيب منطقتنا منها الأكبر، من أفغانستان إلى العراق وسوريا وليبيا وغيرها.
ويخلص المرء، ببساطة وابتسار طبعا، إلى أن الناس العادية ربما لا ترى روسيا "منقذ" العالم من "شر" الغرب إنما هي تقارن بين شرين وتميل نحو ما تعده "الأهون". ولأن الغرب صريح في سياساته، فإن الناس ربما تميل نحو ما تعده أقل شرا، أي روسيا وبوتين. ثم هناك عامل نفسي مهم، وهو أن الضعيف حين لا يستطيع رد ظلم القوي له يصفق لغيره يحاول معاقبة ذلك القوي الظالم.