إبراهيم بدوي:
في خضم موجة غلاء الأسعار التي يشهدها العالم، وما لها من آثار اقتصادية كبيرة على الدول والأفراد في آن واحد، وبدلا من أن تدفعنا تلك الموجة العاتية إلى ترشيد الاستهلاك ومواجهة الغلاء بالاستغناء، كما يقولون، نجد أن الأسواق التجارية تعج بالمشترين، الذين يجمعون المواد والسلع الغذائية بشكل يجعلك تتصور بأن أمتنا العربية المبتلاة مقبلة على مجاعة لا سمح الله، وعندما تتساءل تلميحا أو تصريحا عن أسباب تلك الهجمة الشرائية؟ تجد الإجابة تتمحور حول شهر رمضان المبارك، لتتسع فجوة الدهشة في ذهنك، وتعود لسؤال بديهي: هل صومنا العام لنوفر الغذاء لهذا الشهر الفضيل، الذي يتجلى بفريضة الصوم، الهادفة إلى ترويض النفس والامتناع عن شهوة الطعام، بمقاصد شرعية نبيلة، أهمها الشعور بالنعمة والخوف من زوالها، والإحساس بمن يفتقد تلك النعم؟ نجدنا نجمع الطعام ونكلف أنفسنا ما لا تطيق، بدلا من الإنفاق على الفقراء والمعوزين الذين هم في حاجة طوال العام لما نلقيه في المهملات من بواقي موائدنا.
فالمواطن شريك بشكل كبير في مراحل تحوله لهذا النمط الاستهلاكي الشَّرِه، الذي يجعل أرباب الأسر يستدينون لإقامة الموائد، التي تؤثر طوال العام على ميزانية الأسرة، ولها تأثير سلبي بالتأكيد على اقتصادنا الوطني، فهذا النمط الاستهلاكي يرفع من فاتورة الاستيراد سنويا بأرقام مخيفة، ويضيع أموالا كان من الممكن، إذا أحسن ادخارها، أن تكون نواة مشروع صغير أو متناهي الصغر، يفتح الأبواب لفرص عمل حقيقي لأبنائنا وشبابنا، أو أن يدعم عملا اجتماعيا، يزيح عن كاهل الدول جزءا من النفقات الاستهلاكية، في ظل هذا الشح العالمي من السلع الضرورية. والغريب أن هذا الترشيد هو جوهر الصيام في هذا الشهر المبارك، وهو القصد الشرعي من وراء هذه الفريضة التي تعنى في الأساس بالامتناع، وعدم مطاوعة النفس في الشهوات الحلال منها أو الحرام، والعمل على إطعام الفقراء والإنفاق، ليس على الطعام فقط، بل من الممكن أن توفر هذا الكم من الأموال، وتصرف على تعليم وعلاج الأسر الفقيرة طوال العام.
إن تلك الكلمات ليس من متخصص في الشؤون الدينية، لكنها تعبِّر عن ما نمر به من أزمات عالمية، وما أضحى عليه واقعنا المرير حكاما ومحكومين، حين نتأثر بأي هزة اقتصادية في بلاد الواق الواق أو أزمة سياسية في الجانب الآخر من الكرة الأرضية، فنحن نأكل مما يزرعون، ونستعمل ما يصنعون، ونملئ بطوننا مما يطبخون، دون خجل أصبحنا مجتمعات استهلاكية، لا تمتلك القدرة أو القرار الوطني بشكل مستقل. فصندوق النقد بات يدير حياتنا، ونحن له صاغرون، وهو خطأ نتشارك فيه بتلك الاستهلاكية المفرطة مع من يحكموننا، فالإصلاح يبدأ من الفرد، والعطب أيضا يخرج منه، فلا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فليكن شهر رمضان فرصة لتغيير تلك القِيَم التي تغلغلت في مجتمعاتنا العربية.
فالشهر الفضيل يسعى بقِيَمه للعمل والعبادة بدلا من تقليل ساعات العمل، لتوفير وقت لمشاهدة التلفاز وما به من إعلانات تجارية تحضنا على تعميق النزعة الاستهلاكية، وتبعدنا عن مقاصدنا الدينية والحياتية، وتلهينا عن ذكر الله، ليمر رمضان وقد تأثرت ميزانية العام (دولا وأفرادا) من الناحية المادية، ونفقد فرصة للتقرب إلى الله من الناحية الروحية، فنكون قد خسرنا الدنيا والآخرة، وخسرنا دولة وأفرادا، فابدأ بنفسك وقوِّمها، واستعن بالصيام على شهوة الاستهلاك، وابتعد عن الترف والإسراف، خصوصا وأن الترف والإسراف في وقت تتوالى علينا فيه الأزمات الاقتصادية، وإياكم والتنعم فإن النعمة لا تدوم، لذا علينا أن نحرص عليها وننميها، فنحن مجرد وكلاء على مال الله، وسنحاسب عليه.